شكسبير بين عطيل وديك الجن
د.عدنان هاشم /لندن
[size=32]شكسبير بين عطيل وديك الجن[/size]
أهدي هذه المقالة المتواضعة إلى عشاق الأدب والشعر
حدث عكرمة قال :
كتب شكسبير مسرحية عن عطيل) Othlello) الذي كان ذا بنية قوية وبشرة داكنة تقرب إلى السواد ، وكان رجلا عصاميا وقائدا عسكريا شجاعا. ركب البحر مهاجرا من بلده في المغرب ، موليا وجهه صوب البندقية ، لعله يجد لنفسه حياة طيبة في تلك البلاد البعيدة أفضل منها في بلاده. وفي البندقية سرعان ما أثبت جدارته بفضل مهارته الحربية وقوته البدنية والتي سرعان ما سلب به لب ديسديمونا ابنة سيناتور البندقية التي كانت على قدر فائق من الجمال فتزوجها سرا، ثم رضخ والدها للأمر فرضي بزواجهما.
وهنا وصلت الأخبار إلى البندقية بتوجه الأسطول التركي لاحتلال قبرص ، فجهز البنادقة جيشا بقيادة عطيل فدارت الدائرة على الأتراك ، ونزل عطيل في قبرص منتصرا . وقد أكرم عطيل كاسيو أحد جنوده الذي أبلى في الحرب بلاء حسنا ، فجعله مساعده الأول ، فدب الحسد في قلب جندي آخر اسمه أيكو الذي كان يطمع في ذلك المنصب ، كان أيكو خبيثا سئ الطوية حسودا ، فأضمر العداوة لعطيل.
كان رودريكو وجيها من وجهاء البندقية قد وقع في غرام ديسديمونا ، فاتفق مع أيكو على الأيقاع بعطيل ، فأرسل أيكو زوجته أميليا التي استطاعت أن تأخذ منديل ديسديمونا وتعطيه لزوجها أيكو الذي أعطاه بدوره لكاسيو ، ثم أوحى أيكو بخبثه إلى عطيل بوجود علاقة غرامية بين زوجته ومساعده كاسيو ، وقد رأى عطيل ذلك المنديل الذي أهداه لزوجته ديسدمونا يوم زواجه منها بيد كاسيو، فثارت ثائرته وغلت الغيرة في في قلبه فقتل زوجته خنقا . وبعد حين عرف عطيل مكيدة أيكو فأراد قتله ولكنه نجا من القتل ، فما كان من عطيل إلا أن قام بقتل نفسه فلحقت روحه بروح زوجته الحبيبة .
وهنا سكت عكرمة هنيهة ثم أتبع يقول :
كانت هذه واحدة من مسرحيات شكسبير التراجيدية التي مثلت لأول مرة على المسرح بحضور الملك جيمس الأول ، وكانت المسرحية الأخرى التي جرت أحداثها في البندقية هي روميو وجولييت ، إلا أن مسرحية عطيل لها أثر أكبر في نفسي ، ولعل ذلك يرجع إلى غربته التي هي غربتي وكلانا هاجر من بلاد المشرق إلى بلاد غريبة علينا. كنت منذ الصغر تشدني تراجيديا العشاق والمحبين وأخبارهم ، والذين نادرا ما تسير الأمور معهم رخاء كما يأملون . والأمر الآخر هو تشابه مأساة عطيل مع محنة ديك الجن الحمصي ، ذلك الشاعر الرقيق الحزين الذي أحب جاريته " ورد " حبا صادقا، ولعل ديك الجن قد انتقلت أخباره إلى الغرب لأحتكاك الشرق والغرب طويلا عن طريق البحر إما بالحروب أو للتجارة . كان لديك الجن ابن عم خبيث كان قد وقع في هوى ورد ، فراودها عن نفسها ولكنها استعصمت ، فقرر الأنتقام منها ودبر مؤامرة خسيسة كتلك التي قام بها أيكو، فقام ديك الجن بقتلها لكنه ندم ندما شديدا على قتلها، فذبل جسمه وشحب لونه وقارب الموت ، خاصة بعد أن اعترف له ابن عمه بجريمته ، فقضى حزينا ليلحق بورد ، ولكنه رثاها قبل موته بأرق الشعر وأعذبه منها قوله :
يا طلعةً طلعَ الحِمامُ عليها
وجَنى لها ثمرَ الرَّدى بيدَيْها
روَّيتُ من دمِها الثَّرى ولطالما
روّى الهوى شفتيَّ من شفتيها
فوحقِّ نعليها وما وطِئ الحصا
شيءٌ أعزُّ عليَّ من نَعليها
ما كان قَتْلِيها لأني لم أكُن
أبكي إذا سقطَ الغبارُ عليها
وتراثنا الأدبي يزخر بقصص العشاق والمحبين . كان ابن حزم الأندلسي في أول حياته مولعا بالغناء ولكن تركه بعد ذلك وعرف عنه قوله " إن الغناء الذي يخرج من بين شاربٍ ولحىً لا يستعذب " ثم اتجه إلى الفقه وبرع فيه ، ولكن بقي في نفسه ولع كبير بأخبار الحب والمحبين فألف في ذلك كتابا أسماه " طوق الحمامة " جمع فيه أخبار المحبين ونظراتهم التي تلاحق معشوقيهم وذرائعهم وأعذارهم للأجتماع بأحبابهم ، ومن وشى بهم ومن عاونهم ومن هدم عليهم أحلامهم، فصار ذلك الكتاب نسيج وحده في هذا المضمار.
وأخبار قيس ليلى غنية عن التعريف ولكنها ليست الوحيدة في الحب العذري الذي يجد لذته في نظرة بريئة أو كلمة رقيقة من الحبيب ،وليس حبا إباحيا كحب أبي نؤاس وغيره من الشعراء الخليعين .
هناك قيس آخر وهو قيس بن ذريح الذي كان أخا الحسين من الرضاعة ، فرضع الطهر مع سبط النبي . أحب قيس لبنى بنت الحباب التي كانت حلوة الكلام ، رائعة الجمال ، ثم تزوجها بعد ممانعة طويلة من أبيها ، ولكنها لم تنجب له ، فألحت أمه عليه بطلاقها ، فحار بين حبه للبنى وطاعته لأمه ، ولكنه رضخ أخيرا لأمه فطلقها مرغما ، فرجعت إلى أهلها فلحق بركبها وصار يشم التراب الذي مشت عليه ، وهجر عينيه النوم ، وفقد شهيته إلى الطعام ، فذبل جسمه وأشرف على الموت ، خاصة عندما سمع بزواجها من رجل آخر. ولكنه كان يذكر لبنى بأرق الشعر الذي انتشر في كتب الأدب العربي منه :
لقد عذبتَني يا حبَّ لبنى فقعْ إما بموتٍ أو حياةِ
فإن الموتَ أروحُ من حياةٍ تدوم على التباعدِ والشتاتِ
ثم سكت عكرمة قليلا ثم استرسل يقول:
لم يكن هذا الشعر الغزلي الرقيق حكرا على الشعراء الأوائل ؛ ففي عصرنا الحديث أحب الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي فتاة مصرية في شبابه ولكنه تركها وذهب للدراسة في الغرب ، وعندما عاد وجدها متزوجة من رجل آخر ، فانكفأ على ذاته ولكنه ظل يذكرها ويحن إلى ذكراها.
وفي صبيحة يوم باكر سمع طرقا شديدا على الباب ، وإذا برجل يتضرع إليه أن يعالج زوجته التي تعسرت ولادتها فكادت تشرف على الموت .وعندما ذهب معه وجد حبيبته تعاني آلام ولادة شديدة. وقد نجح شاعرنا في توليدها، ثم رجع إلى بيته وقد هاجت شجونه وعادت إليه ذكريات الحب الغابر، فجلس ينظم قصيدة طويلة من 125 بيتا من عيون الشعر الحديث وأنصح لكل من يهوى الأدب في قراءتها:
يا فُؤَادِي رَحِمَ اللّهُ الهَوَى كَانَ صَرْحاً مِنْ خَيَالٍ فَهَوَى
اِسْقِني واشْرَبْ عَلَى أَطْلاَلِهِ وارْوِ عَنِّي طَالَمَا الدَّمْعُ رَوَى
كَيْفَ ذَاكَ الحُبُّ أَمْسَى خَبَراً وَحَدِيْثاً مِنْ أَحَادِيْثِ الجَوَى
وقد خلدت بعض أبياتها أم كلثوم في أغنيتها الشهيرة " الأطلال " بلحن رياض السنباطي فجمعت هذه الأغنية أرق الشعر مع أروع الأصوات في أعذب الألحان.
وهنا أدرك عكرمة الصباح فسكت عن الكلام المباح .