حصاد عهد المستشارة أنغيلا ميركل
ت
د.ضرغام الدباغ
المراسلات :
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد :285
التاريخ : / 2021
[size=32] حصاد عهد المستشارة أنغيلا ميركل[/size]
يوم الثامن من كانون الأول ــ ديسمبر / 2021، كان اليوم الأخير في ولاية السيدة الدكتورة أنغيلا ميركل، أستاذة الفيزياء التي اقتحمت السياسة منذ أكثر من 30 عاماً، واليوم سيحين لها أن تنسحب لترعى حياتها ... بعد 16 عاماً تولت فيها منصب المستشارية (رئيسة الوزراء)، وأدارت فيها دفة الحكم في بلد كبير، يتمتع بمكانة سياسية / اقتصادية / ثقافية كبيرة في أوربا والعالم، بمهارة ملحوظة.
الدولة في ألمانيا، آلة متقنة الصنع محكمة متينة لذلك تؤدي دورها بكفاءة المكائن والصناعة الألمانية عموماً التي يشهد لها العالم بالنجاح والقوة والأداء المتقن. ولهذا فإن نجاح المستشارة ميركل لا يعود لكفاءتها الشخصية فحسب، بل وأيضا لكفاءة أداء الدولة الألمانية التي تولت قيادتها. فهي استلمت الحكم من مستشار كفء وهو السيد غيرهارد شرويدر، الذي حقق منجزات تشريعات ومنجزات مهمة، الذي بدوره أستلم دفة البلاد من أحد مستشاري ألمانيا التأريخيين (هيلموت كول) الذي في عهده (1990) تم إحراز الحلم الألماني العظيم المتمثل بالوحدة الألمانية وتولت عام 1001 لأول مرة منصب الوزارة، وفي 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2005 فازت في الانتخابات بفارق بسيط ضد المستشار شرويدر وتولت منصب المستشارية. كأول إمراة في تاريخ ألمانيا تتولى هذا المنصب. هل نجحت ميركل في فترة حكمها ..؟
بتقديرنا أن الأمور لا تقاس بهذه البساطة. فهي استلمت الحكم بفارق بسيط عن مستشار كان ناجحاً في إدارته للحكم ومهد للكثير من الخطوات المهمة سياسياً وأقتصادياً، ومؤشرات النجاح المحلية تتمثل بإيجاد الحلول للمشكلات المشخصة كمعضلات في الواقع الألماني، ففي عهدها حقق الاقتصاد الألماني تقدماً في حين تراجعت الاقتصادات الأوربية بفضل سياسة مالية صارمة، وصمد الاقتصاد الألماني في هزة الديون التي أندلعت في معظم الدول الأوربية، وهذه سمة للاقتصاد الألماني بصفة عامة، في أن يمثل قاطرة الاقتصاد الأوربي. ثم واجهت مشكلات الهجرة وهذه ما تزال مطروحة بسخونة اليوم، وأيضا صعود الشعبويون(اليمن الألماني المتطرف) الذي يبدو أن لا مستقبل له، فألمانيا في العقد الثالث من الألفية الثالثة ليست ألمانيا الثلاثينات، ولا يمكن مواجهة المشكلات الألمانية الداخلية بشعارات التطرف والتحريض، فهذه سوف لن تورث سوى تعميق المشكلات، فضلاً عن أن اليمين الألماني فشل في توجيه خطاب جذاب للجمهور، وتسعير العداء تجاه الأجانب لا يصلح أن يكون مقدمة لخطاب سياسي / اقتصادي / ثقافي .
بعد 16 عاماً على رأس البلاد، يجد المسيحيون الديموقراطيون كحزب أنفسهم في موقع المعارضة. وإن كانت ممارسة الحكم قد ساهمت في تراجع موقعهم كما يحصل عادة، فإن ذلك نتج أيضاً من عجز ميركل عن التمهيد لخلافتها. فبعدما استبعدت بشكل منهجي القادة المحافظين الذين يمكن أن يشكلوا منافسة لها، مثل الليبرالي فريدريش ميرتس أو نوربرت روتغن، الوزير الوحيد الذي أقالته منذ 2005، راهنت المستشارة لفترة على أورسولا فون دير لاين، قبل أن تسلط الضوء على أنيغريت كرامب- كارنباور التي عدلت عن الترشح، مفسحة لأرمين لاشيت الذي ارتكب أخطاء وهفوات.
وكانت المستشارة ميركل قد لخصت شعارها في 22 تموز/يوليو بالقول "الحياة بدون أزمات أسهل، لكن حين تحلّ الأزمات، يجب مواجهتها". وعددت المستشارة عندها خمس أزمات كبرى واجهتها، منها :
• الأزمة المالية عام 2008 إلى
• تفشي وباء كوفيد-19 (كوورونا)، مروراً
• إنقاذ اليورو ثم أزمة
• ملف اللاجئين، وخصوصا السوريين عام 2015
• والاحترار المناخي.
غير أن فتح أبواب بلادها أمام اللاجئين يبقى أبرز قرار في عهد ميركل، يثني عليه مؤيدوها باعتباره قراراً شجاعاً. كما أن ميركل حصدت الإشادات لتعاطيها مع الأزمة الصحية وجائحة كورونا.
في مجال السياسة الداخلية
تميزت انتخابات 2017 التي كرست ميركل مستشارة لرابع ولاية على التوالي، بدخول حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي لأول مرة إلى البرلمان كما أن تبايناً كبيراً لا يزال يسجل بين الغرب والشرق، إذ تبقى مناطق في ألمانيا الشرقية سابقاً بمنأى عن المعجزة الاقتصادية الألمانية. كما تبقى نسبة الوظائف الصغرى المتدنية الدخل مرتفعة.
واغتنم هذا الحزب المعادي للإسلام الذي انبثق جناحه الأكثر راديكالية من حزب النازيين الجدد، المخاوف الناجمة عن فتح أبواب ألمانيا أمام المهاجرين عام 2015 لينمو وخصوصاً في مناطق ألمانيا الشرقية سابقا حيث يلعب دوراً سياسياً مهماً. وبات الخطر الإرهابي الناجم عن اليمين المتطرف مصدر الخوف الأول، ومتقدماً على الخطر الجهادي، بعد وقوع عدة هجمات دامية. كما تسجل زيادة في الهجمات ضد اليهود.
كما أن المستشارة الأولى في المانيا الفدرالية لم تنجح في ترسيخ موقع المرأة في السياسة، وتبقى نسبة النساء المنتخبات في مجلس النواب حالياً بمستوى 34%، وهي نسبة بالكاد أعلى مما كانت عند وصول ميركل إلى السلطة عام 2005 (32,5%).
وداخليا أيضاً، يؤخذ على المستشارة أنغيلا ميركل أنها أنهت 4 ولايات من الحكم ( 16 عاما) وانسحبت من الساحة السياسية وسط شعبية كبيرة. بيد أنها انتقدت لافتقادها "للرؤية". كما تعرضت لانتقادات "لفشلها" في ترسيخ موقع المرأة السياسي ومن غير أن تكون مهّدت لخلافتها، تاركة إرثاً متبايناً.
الملفات الأوربية اليوم تعد ملفات بالغة الحيوية والحساسية، كما لم يكن عليه الحال في الثلاثينات، فالتنافس بين الأقطاب الاستعمارية (مستعمرين قدامى: بريطانيا وفرنسا، ومستعمرين جدد : ألمانيا وإيطاليا) كانت رائجة في الثلاثينات، بين قوى قديمة وقوى صاعدة، والاتحاد السوفيتي الذي كان يسعى لأن تكون له مكانته وتأثيراته في السياسة الدولية، واليوم تبدو صورة الموقف مختلفة بدرجة كبيرة.
وعهد المستشارة ميركل واجه محاولات الهيمنة الأوربية، وإذا كانت ازمة العلاقات الأمريكية / الأوربية في حقبة أوباما الديمقراطي، تدور بهدوء وتحت السيطرة، فإنها بدت مختلفة في عهد ترامب الجمهوري، وبلغ الخلاف لدرجة التوتر، ولم تخفف المواجهة الصينية ـ الروسية / الأمريكية من حدة التباين إلا قليلاً، وتؤشر معطيات عديدة إلى أن الأوربيين ماضون بأتجاه الاعتماد على الذات دفاعياً، وإدارة العلاقات ضمن العالم الغربي ستكون واحدة من المهام الصعبة حتى للإدارة الألمانية الجديدة.
المستشار الجديد السيد أولاف شولتس شغل منصب وزير المالي في حكومة ميركل، وكان قد خلف في هذا المنصب المهم (الذي يلي في الأهمية منصب المستشار) خلفا للسيد شويبلة، وهو سياسي مخضرم كفوء ومحنك، عرف عنه الصرامة الشديدة والدقة، فسار السيد شولتس في وزارة المالية على سياسة سلفه.
على صعيد السياسة الدولية
شهد الدور الذي لعبته ألمانيا على الساحة الدولية تطوراً على مدى 16 عاماً. ففي ظل صعود النزعات الشعبوية، وصفت صحيفة نيويورك تايمز ميركل بأنها "زعيمة العالم الحر" الجديدة. وتنامى النفوذ الألماني في آسيا كما في أفريقيا، القارة التي زارتها المستشارة أكثر بكثير من أسلافها. غير أن حصيلة سياستها الخارجية تبقى موضع جدل إذ يبقى وزن ألمانيا الجيوسياسي أدنى بكثير من نفوذها الاقتصادي.ا كما واجهت نتقادات لتقاربها مع روسيا والصين
وعلى صعيد آخر، فإن استراتيجية التقارب والتعاون التي انتهجتها أنغيلا ميركل رغم الظروف تجاه روسيا برئاسة فلاديمير بوتين، وأبرز تجلياتها مشروع خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" المشترك، لم تقنع الكرملين بالتخلي عن سياسته المتصلبة، ولم تساعد في تسوية النزاع بين موسكو وكييف.
كما واجهت ميركل انتقادات متزايدة لإعطائها الأولوية للتبادل التجاري مع الصين، ثاني سوق للصادرات الألمانية، رغم الاتهامات الموجهة إلى بكين على صعيد حقوق الإنسان.
أما بالنسبة للعلاقات عبر الأطلسي، فلم يعد بإمكان ألمانيا الاعتماد كما من قبل على المظلة الأميركية، من غير أن تضع في هذه الأثناء إستراتيجية جديدة على صعيد السياسة الأمنية، رغم مشاركتها بشكل متزايد في مهمات عسكرية في الخارج.
وذكر تقرير لمؤتمر ميونيخ للأمن العام الماضي أن "انخراط ألمانيا" على الساحة الدولية "يبقى في غالب الأحيان دون تطلعات شركائها الرئيسيين والمطالب التي تطرحها البيئة" العالمية.
قاطرة الاتحاد الأوروبي
بيد أن أزمات أخرى عرّضتها لانتقادات، وخصوصاً أزمة ديون اليونان عام 2011، حين أبدت الحكومة الألمانية موقفاً متصلباً دفع أثينا إلى شفير الإفلاس وأثار مشاعر عداء شديد للمستشارة في أوروبا. وكانت المستشارة ميركل قد اعتنقت نظرية تشارك الديون في الاتحاد الأوروبي، فهي لم توافق قبل ثلاث سنوات على اقتراحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإصلاحية، في موقف واجه انتقادات حتى داخل ألمانيا.بعدما كانت ألمانيا "الرجل المريض" في الاتحاد الأوروبي مطلع الألفية، استعادت موقعها كأكبر قوة اقتصادية في القارة، مستندة إلى فائض هائل في الميزان التجاري وإدارة مالية صارمة. وتراجعت نسبة البطالة خلال 16 عاماً من 11,2% إلى 5,7% في تموز/يوليو، في سوق لا تزال هشة على وقع تفشي الوباء.
كتبت أسبوعية "دير شبيغل" الواسعة الانتشار أن "الاتحاد الأوروبي في وضع لم يعد بالجودة التي كان عليها عند وصول ميركل إلى السلطة عام 2005"، مشيرة إلى عدم امتلاك المستشارة "رؤية" وإلى "الهوة بين الشمال والجنوب حول المسائل المالية" وبريكست وصعود الديموقراطيات غير الليبرالية.
المستشارة ميركل أقرت بنفسها في 22 تموز/يوليو بأنه منذ 2005 "لم تحصل أمور كافية" لمكافحة الاحتباس الحراري، ولو أنها على اقتناع بأنها "كرست الكثير من الطاقة" لهذه المسألة. وأثارت ميركل مفاجأة عام 2011 حين أعلنت عزمها على إخراج بلادها من الطاقة النووية بعد كارثة فوكوشيما في اليابان. واضطرت ميركل التي لقبت في فترة "مستشارة البيئة" وكانت وزيرة للبيئة في عهد المستشار هلموت كول، إلى تعزيز أهداف ألمانيا تحت ضغط المحكمة الدستورية التي اعتبرت أنها تفتقر إلى الطموح.