"كنوز بلاد ما بين النهرين" فيلم وثائقي فرنسي يبرز حملة إنقاذ الاثار العراقية !!
علي المسعود
[size=32]"كنوز بلاد ما بين النهرين" فيلم وثائقي فرنسي يبرز حملة إنقاذ الاثار العراقية !![/size]
تحظى منطقة 'بلاد ما بين النهرين' بشهرة أكثر مما يظن الناس ، سومر ، بابل ، ملحمة جلجامش ، برج بابل الأسطوري ، كل هذه الأسماء تجسد بلاد ما بين النهرين (حرفيا "الأرض بين الأنهار" ، أي نهري دجلة والفرات). وبحلول القرن العشرين أصبحت "بلاد ما بين النهرين" مصدر إلهام لأعمال كثيرين، بدءاً من الفنانين والمهندسين المعماريين . وفي ظل غزارة المراجع التي تتحدث عن هذه المنطقة وحضاراتها، لابد للمرء أن يتساؤل عما إذا كانت تلك الحضارات القديمة التي نشأت في منطقة واسعة المساحة، تشمل غالبية أنحاء العراق، وتضم كذلك أجزاء من سوريا، وتركيا، قد شكلت عالمنا على نحو جوهري أكبر مما نحسب . وقد تبين أن ما قدمته حضارات هذه المنطقة للانسانية كثيرٌ بحق. ولكن قبل الخوض في التفاصيل الجوهرية المتعلقة بهذا الأمر لابد من فهم سبب تسمية "بلاد ما بين النهرين". فهذا الاسم الذي كان الإغريق أول من استخدموه ويشير إلى كونها منطقة مسطحة من الأراضي ذات التربة المؤلفة من الغرين (الطين الرسوبي) الواقعة بين نهري دجلة والفرات؛ تلك البقعة المعروفة باسم "مهد الحضارة"، والتي تخلي فيها الإنسان - للمرة الأولى - عن نمط الحياة القائم على الصيد وجمع الثمار، بهدف تأسيس مجتمعاتٍ أكثر استقراراً تقوم على الزراعة، التي ازدهرت بحلول عام 6000 قبل الميلاد .
وفي مرحلة ما في العصور القديمة، ابْتُكِرَ نظام الري في بلاد سومر كوسيلةٍ للاستفادة من التربة الخصبة في المناطق الجنوبية من "بلاد ما بين النهرين". أن موقع "بلاد ما بين النهرين" المعزز بأراضٍ خصبة للغاية تمثل قاعدةً زراعيةً شديدة الأهمية كان عاملاً جوهرياً في ازدهار الحضارات فيها . وترتب على ذلك وضع نظام إداري لتنظيم شبكة قنوات الري وتُرَعِه، وهو ما حفز بدوره ظهور أول نموذجٍ لما عُرِفَ بـ"دولة المدينة"، مثل "الوركاء" أو "أوروك" باللغة السومرية. تلا ذلك ظهور الممالك ثم الإمبراطوريات في نهاية المطاف وارتبطت المراحل المختلفة والمتنوعة التي تألف منها التاريخ الطويل لـ"بلاد ما بين النهرين" ببعضها البعض وعبر ثقافةٍ ذات طابع متميز وسمات متطورة ، تتمثل في مجموعة من العادات والتقاليد والخرافات والأساطير وكذالك المعتقدات الدينية، يشترك فيها كل من تعاقبوا على السكنى في هذه البقعة . وقد حُفظت هذه العادات والمعتقدات في صورة نصوص مكتوبة، بعدما ابتكر السومريون عام 3200 قبل الميلاد أو نحو ذلك، الكتابة المسمارية التي اشتُق اسمها من الشكل المميز الذي تتخذه الأنماط والعلامات والخطوط المستخدمة فيها، والتي تنتهي برؤوس مدببة تجعلها شبيهة بالمسامير والأوتاد . بالرغم مما شهدته هذه المنطقة من قيامٍ وانهيارٍ للإمبراطوريات، وكذلك عن التغيرات التي طرأت على هذه المجتمعات بمرور الزمن غير أن الحرب وعدم الاستقرار جعلته هدفا سهلا للصوص .
صحيح أن علماء الآثار الأوروبيين كانوا ينقلون بشكل روتيني كل ما يجدونه في العراق إلى بلدانهم الأصلية في أوائل القرن العشرين. وكذلك التنقيب غير الشرعي الذي كان شائعا خلال حكم الرئيس الأسبق صدام حسين، خصوصا بعد حرب الخليج الأولى. مثل لوح كلكامش الذي يبلغ من العمر 3500 عام وهو من أقدم الأعمال الأدبية التي ستُعاد إلى العراق ، يُزعم أن القطعة الأثرية سُرقت من متحف العراقي في عام 1991، عندما غرقت البلاد في حرب الخليج الأولى وهي القطعة الأثرية الثمينة ، غير أن بوابة النهب فُتحت على صراعيها حقا بعد غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 وما جلبه هذا الاحتلال من فوضى . وفي السنوات القليلة الماضية . كانت بلاد ما بين النهرين هدفاً رئيسياً لداعش ، في عام 2014 سيطرت "داعش" على أكثر من ثلث البلد بما في ذلك آلاف المواقع الآثارية والمتاحف. ووفق تأويل التنظيم للإسلام الذي يُحرّم تقديس الأصنام والأضرحة دمّر أفراده الكثير من التماثيل التي لا تقدر بثمن، وهرَّبوا البقية لتمويل عملياتهم في إشاعة الرعب. وتُفيد تقديرات أن العائدات السنوية لبيع القطع الأثرية المسروقة في السوق السوداء بلغت 80 مليون جنيه استرليني . لكن شغف د.جوادة بشارة العراقي الغيور الشريف بآثار بلاده وأعتزازه بتاريخ بلاده هو أكبر بكثير من كراهية المتطرفين وحقدهم . في أبريل 2016 بدأ جواد بشارة رحلته وكانت داعش لا تزال تحتل مدينة عديدة. لذلك قرر المسافر أن يبدأ مهمته مع مسقط رأسه في مدينة بابل، وذالك حين إنتشرت صور الانتهاكات المدبرة حول العالم التي أقنعت جواد بشارة الكاتب والصحفي العراقي المنفي في فرنسا ، وعند العودة إلى بلاده للعمل بدأ سباقًا سريعًا ضد التدمير المبرمج لهذه الركائز الأساسية لحضارتنا. المغامرون علماء الآثار والطلاب وأبناء المدن والمستنقعات والجنود في القتال ينضمون إليه في إنقاذ هذه الكنوز من كارثة أخرى .
وبفضل التقنيات الحديثة ، يأمل جواد بشارة في حماية المواقع والمعالم الأثرية والأعمال المتناثرة في هذا العراق الخاضع للصراعات وإعادة تشكيلها رقميًا. بين المناجم والخطوط الأمامية ، تحيي رحلته بطريقتها الخاصة هذه الحضارة من التجمعات القروية الأولى إلى القمم الدائرية لبرج بابل. ( كنوز بلاد الرافدين)، فيلم وثائقي كتب السيناريو: إيفان إرهيل (فرنسا) جان كريستوف فاغولسي (فرنسا) كارولين فيرمال (فرنسا). تمويل الفيلم فرنسي مائة بالمائة وورائه شركة إنتاج فرنسية وتمويل من جانب قناة تلفزيونية فرنسية ألمانية وقناة آرتي الثقافية الفرنسية – الألمانية وشركة إنتاج فرسية هي غران دو سابل . عمل د. جواد بشارة مع فريق فرنسي وعراقي لمدة أربع سنوات على إنتاجه بين فرنسا والعراق، رحلة هذا الفيلم شملت اثار العراق من الناصرية الى الموصل بأغلب المواقع الاثرية ، وخاض الفيلم رحلة البحث عن برج بابل وتأكيد موقعه علمياً . توجها بالسؤال للسيد بشارة: كيف ولدت فكرة إنتاج الفيلم؟، ومتى بدأ التجهيز لإنجاز الفيلم؟ وماهي المدة الزمنية لإنجاز الفيلم؟ ، أجاب بشارة قائلاً: " بدأت الفكرة سنة 2014 عندما استولى تنظيم الدولة الإسلامية على مناطق كثيرة من العراق وسوريا وبدأت بتدمير منهجي لكل التراث والاثار العراقية فأحدث ذلك صدمة في داخلي وفي داخل كل مثقف عراقي وسوري ينتمي لهذه الحضارة العريقة، فقمت انا ومجموعة من المثقفين الفرنسيين والشباب الفرنسي بحملة لإنقاذ التراث والاثار العراقي من الدمار باستخدام التكنولوجيا الحديثة بما يسمى "الرقمنة"، وبادروا الى جميع الدعم من اليونسكو ومتحف اللوفر والجامعات وعلماء الاثار، وأيضا قناة أي ارت تي التي وافقت على انتاج فيلم سينمائي ، بدأنا من 2016 الى قبل اشهر قليلة بتصوير الفيلم وزرنا كل المواقع الاثارية التي تعرضت للتدمير العبثي بعد قيام تنظيم داعش الإرهابي بتحطيم الآثار والمواقع الأثرية في العراق وسورية الموجودة تحت سيطرتها شعرت بحالة من القلق والغضب الشديد والخوف على هذا التراث العظيم الذي هو ملك للإنسانية جمعاء وليس فقط للعراق وسورية فقمت بحملة اتصالات مع الجهات ذات الاختصاص في مجال الاثار والآركيولوجيا أو التنقيبات الثرية في أوروبا لتدارس الأمر ودراسة التداعيات الكارثية ومحاولة إنقاذ مايمكن إنقاذه وحصلنا على دعم منظمة اليونيسكو ومتحف اللوفر والمتحف العراقي وشبكة الإعلام العراقية ووزارة الثقافة الفرنسية ووزارة الثقافة العراقية وقناة آرتي الثقافية الفرنسية – الألمانية وشركة إنتاج فرنسية هي غران دو سابل للقيام بحملة واستخدام التقنية الحديثة وتكنولوجيا الرقمنة والواقع الافتراضي وبدأنا التجهيز والتحضير لمشروع الإنقاذ وتسليط الضوء الإعلامي وتعبئة الرأي العام وبدأنا منذ عام 2018 تحقيق هذا المشروع على أرض الواقع ، واستغرق المشروع ثلاث سنوات" .
إصرار جواد بشارة للعودة الى بلده بهذا الفيلم بعد غياب وغربة أمتد لاكثر من 40 عاما واختياره أثار العراق من أجل ان يتصدى بدعم من الرأي العام العالمي والمؤسسات الفكرية والثقافية مثل اليونسكو. ومن أجل توجيه أنظار العالم الى أهمية هذه الكنوز التي بعضها آيلة للاندثار مثلاً تماثيل مهمة حطمت وكسرت بالفؤوس، وكان شاهد عيان عندما ذهب لهذه الأماكن وقام بتصويرها . في رحلته السيد جواد بشارة مع فريق العمل من مصورييين وفنيين وغيرهم الذين قادونا في رحلة أثاريه مشوقة وممتعة بشكلها السينمائي والعلمي ولينقلوا الى للعالم حكاية عن " كنوز بلاد ما بين النهرين" . أما عن الصعوبات التي واجهت فريق العمل، وكيف كان تجاوب العراقيين مع فريق العمل؟ يحدثنا د. جواد بشارة عن ذالك قائلا: "واجهتنا صعوبات كثيرة منها أمنية وتعرضنا للخطر أكثر من مرة، خاصة في الموصل إثناء احتلالها ، وصعوبات إدارية وقانونية وبيروقراطية وابتزازات ومشاكل مادية والروتين القاتل وعدم تعاون الموظفين العراقيين في الدوائر المعنية إلا إذا دفعت لهم رشاوي وإلا يعرقلون المعاملات والكتب الرسمية والدخول للأماكن الأثرية رغم وجود موافقات مسبقة وهناك أيضاً صعوبات المناخ القاسية وانقطاع الكهرباء ومشاكل النقل والتنقل بين المحافظات لكن الكثير من الناس كانوا كرماء ومتعاونين خاصة في ذي قار والبصرة ونينوى وبابل وكوردستان والأهوار. أجهزة المطار الأمنية حاولت عرقلة إدخال أجهزة ومعدات تصوير وطائرة مسيرة للتصوير الجوي، الأمر الذي أرغمنا على اللجوء إلى القدرات المحلية من مصورين وكاميرات ومهندسي صوت الخ..".
من المواقع المحفوظة من الغزو إلى تلك التي دمرها تنظيم الدولة الإسلامية يتابع الفيلم الوثائقي " كنوز بلاد ما بين النهرين" عملية الإنقاذ التي نفذها العراقي جواد بشارة في مهد الإنسانية الذي لايخفى حزنه على ماألت اليه الاحوال في تدمير هذا الارث الحضاري ويأخذنا إلى (إعادة) اكتشاف التراث الذي خلفته الحضارة الأولى التي ظهرت قبل خمسة آلاف سنة ، وفي منطقة الهلال الخصيب وبين نهري دجلة والفرات. ولاننسى صرخة جواد بشارة العراقي الغيور وصدمته حين شاهد حجم التخريب والدمار الذي الحقة الارهابيين بتاريخ العراق وأثاره حين صرح " أوغاد وسفلة " . ويعود الى بابل مدينته الوديعة التي تغفو على نهر الفرات ويلتقي (سلام حربة ) الكاتب والباحث والذي يوكذ في حديثة أنهم مستمرون في التخريب و التهديم . باستخدام تقنيات جديدة وثلاثية الأبعاد ، وبمساعدة علماء آثار مشهورين ، قام فريقه بنمذجة الآثار والأشياء لتشكيل سفينة نوح الرقمية من جنوب العراق إلى شماله ، وبعد إستعادة الأراضي التي كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية تمكن فرق علماء الآثار الدولية من استئناف أعمال التنقيب عن مواقع المحفوظة بالمخاطر والتي دمرها جزئيًا أو كليًا تنظيم داعش في عمليات إعادة البناء الافتراضية . هذا الفيلم المزين بمقابلات مع المتخصصين مع مقتطفات من النصوص القديمة يؤلف فيلمًا وثائقيًا ثريًا ورائعًا يتتبع المساهمات العديدة لبلاد ما بين النهرين مهد الإنسانية للعالم من اختراع الكتابة وتحسين الزراعة والهندسة المعمارية ، الدول المدن الأولى . أما عن رسالة الفيلم فهي كما يقول الد كتور جواد بشارة " أهم رسالة للفيلم هي أن العراق ليس فقط إرهاب ودمار وتخلف بل تاريخ عريق وحضارة عظيمة موغلة في القدم نشأ فيها الحرب والكتابة " .
في الختام : في بلاد ما بين النهرين منذ 5000 عام ، ولدت ما نسميه الحضارة الأولى ، حيث ظهر البشر من عصور ما قبل التاريخ. وجاءت العجلة والرياضيات والدولة والكتابة والعولمة كلها منها ، والتي تعتبر جزء من التراث العالمي للإنسانية جمعاء . وفي فيلم " كنوز بلاد ما بين النهرين" يرسم فيه جواد بشارة وفريق عمله الطريق الذي جعل البشر جزءًا من التاريخ بالنسبة لنا وبرفقة علماء الآثار والمتخصصين وكلف نفسه بمهمة تخليد تراثنا المشترك، فيلم وثائقي مهم يستحق المشاهدة .
علي المسعود
كاتب عراقي \مقيم في المملكة المتحدة