أوكرانيا ... الأبعاد الحقيقية والقنابل الدخانية
د.ضرغام الدباغ
أوكرانيا ... الأبعاد الحقيقية والقنابل الدخانية
تشهد القضية الأوكرانية، جعل منها الغرب قضية بل ربما بؤرة توتر جديدة تضاف لبؤر التوتر ...! من أجل أن يشعلوا ناراً يضعوا من خلالها موضع قدم لهم ويتدخلون ليحرقوا البلاد، ثم يتدخلون بعدها يعرضون خطط ومشاريع .. ويفرضون أنفسهم لإصلاحها، ليضعوا في النهاية ذلك البلد تحت هيمنتهم .. هذا هو السيناريو الأمريكي الأجمل التي تحبذه أميركا ومعها زبانيتها .. من الأوربيين وغيرهم (كندا واستراليا) وهم للأمانة ليسوا بدرجة واحدة من الحماسة، بل بدرجات متفاوتة للعب دوراً على هذه المسرحية.
ومن أجل فهم دقيق للمسألة الأوكرانية، نذكر ببعض المعطيات المادية المجردة :
ـــ لم يعرف للأوكرانيين تاريخ لكيان سياسي لدولة مستقلة، وإن شئنا أن نبدأ منذ القرن التاسع، يبدأ تاريخ أوكرانيا الحديث مع السلاف الشرقيين ومنذ القرن التاسع، أصبحت أوكرانيا مركز القرون الوسطي للسلاف الشرقيين. امتلكت هذه الدولة، المعروفة (بأسم روس كييف)، القوة والأرض، لكنها تفككت في القرن الثاني عشر بعد حرب الشمال العظمى، حيث تقسمت بين عدد من القوى الإقليمية، ومنذ القرن التاسع عشر فصاعداً، خضع الجزء الأكبر من أوكرانيا للإمبراطورية الروسية، وجزء آخر مما تبقى كان تحت سيطرة الإمبراطورية النمساوية الهنغارية.
ـــ وبعد فترة من الفوضى والحروب المتواصلة ومحاولات عدة للاستقلال (1917-1921) بعد الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الروسية، برزت أوكرانيا في 30 كانون الأول 1922 بقيادة الحزب الشيوعي الاوكراني كأحد الكيانات المؤسسة للاتحاد السوفيتي. وكان عدد مهم من قادة الاتحاد السوفيتي ينحدرون من أصول وكرانية، بعدا تم توسيع جمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية غرباً، وبعد الحرب العالمية الثانية، وجنوباً في عام 1954 ضمت شبه جزيرة القرم الروسية إلى أراضي جمهورية وكرانية الاشتراكية السوفيتية، في عام 1945، أصبحت جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية من الأعضاء المشاركين في تأسيس ، بدعم من الاتحاد السوفيتي القوة العظمى، والمساهم الأساسي حين تأسست الأمم المتحدة.
ـــ لعبت قوى كثيرة على وتر أوكرانيا، منها ألمانيا النازية الهتلرية، حين استغلوا جنرالاً سوفيتياً (أوكرانيا) أسر في الحرب، وجمعوا له قوات من المنشقين ليقودهم ضد الاتحاد السوفيتي في محاول فاشلة لزعزعة الموقف السوفيتي.
ـــ منحت روسيا مساحات كبيرة من أراضيها الوطنية لجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية، منها أقليم القرم وربما أراض أخرى.
ـــ يتألف سكان أوكرانيا (42 مليون نسمة) من مجاميع عرقية متعددة، منهم الروس، والبيلوروسيين، ورومانيين،، يمثلون نحو 22,5% من مجموع السكان.
ـــ في المفاوضات إلي قادت لتفكك الاتحاد السوفيتي، (مالطا ــ 3 ــ 4 / ديسمبر / 1989) وعدت الولايات المتحدة (شفوياً) أن لا تعمل على التوسع إلى البلدان التي كانت من جمهوريات الاتحاد السوفيتي، ولا تعمل على دخولها لحلف الناتو. ولكن الولايات المتحدة، لا تؤكد هذا الأمر.
ـــ ينتمي الأوكرانيون من العرق السلافي، وتاريخهم وثقافتهم متداخلة بدرجة وثيقة مع الشعب الروسي، والشعبان يتبعان الكنيسة الارثودوكسية،
ـــ اللغة الأوكرانية، هي لغة من فرع اللغات السلافية الشرقية وهي اللغة الرسمية في أوكرانيا . وتكتب هذه اللغة بالأبجدية الاوكرانية، وهي أبجدية مشتقة من الأبجدية السيريلية. ويبلغ عدد متحدثي اللغة الأوكرانية يبلغ زهاء 51 مليون شخص تقريباً، يقطن 90% منهم في أوكرانيا، و و10% الآخرون في الشتات الأوكراني، الذي ينتشر على طول عدّة بلدان في كافة أنحاء العالم مثل الأرجنتين وبيلوروسيا، البرازيل، كندا، لاتفيا، بولندا، رومانيا، روسيا، والولايات المتحدة.
ــ يقدر عدد المسلمين في اوكرانيا بمليوني شخص، يضافون إلى الخارطة الثقافية في أوكرانيا.
ـــ استعادت موسكو الأراضي الروسية التي منحت لأوكرانيا بعد قيام الاتحاد السوفيتي،(مناطق القرم) وهي أرضي حساسة مطلة على البحر الأسود. وأجرت فيها استفتاء وتصويت طالب فيها السكان الالتحاق بروسيا.
ـــ هناك أقاليم يمثل فيها الروس الغالبية العظمى، وهي أقاليم مهمة شرقي البلد وملاصقة للأراضي الروسية، تطالب موسكو لهم بوضع خاص. (أنظر الخريطة شرقي الخط البرتقالي، أراض ذات أغلبية روسية).
ـــ لا تقبل روسيا بانظمام أوكرانيا أو بلدان أخرى ملاصقة لحدودها إلى حلف الناتو.
ماذا تريد الولايات المتحدة
سئل مرة صحفي من مجلة فوكوس (Focus) الألمانية وزير خارجية الولايات المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وحل حلف وارسو، الكسندر هيغ،(وهو جنرال تولى وزارة الخارجية ولم يكن ناجحاً في مهامه)، سئل عن سبب بقاء حلف الناتو بعد حل الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو. وباعتبار أن الوزير هو عسكري في الأساس، لذلك كانت إجابته تخلو من الكياسة، فقال بما معناه، أن الحلف هو أداة للهيمنة الأمريكية، وأن الولايات المتحدة ترى أهمية وجوده كأداة للتدخل.
إذن هذا هو جوهر الأمر وبسببه يحرق أعضاء الناتو سنويا مئات المليارات من الدولارات، بالطبع هناك أسباب ولكنها ليست للنشر والإعلان ..! ولكن لندع الأسباب الهامشية والثانوية، والتي بعضها لا يكاد يصدق، ولكن في الإجمال هي تهدف إلى مواصلة وضع الحلفاء الأوربيين تحت الهيمنة، ومواصلة إشهار العداء لروسيا، مع أن هذا غير مفهوم وشعار غير مرحب به وغير مفهوم في أوربا، وينطوي على عودة غير مستحبة لعصر التكتلات، ودور التيار الديني ليس مستبعداً في خضم التناقضات الحقيقية والمصطنعة، ولكننا نعتقد أن المسألة برمتها، ترمي لهيمنة الولايات المتحدة في العالم، والخندق الأقرب لها، هو أوربا الغربية ... وما يجاورها، وهناك دائماً أسباب ويمكن اختلاق أخرى، ومن جملة الأسباب،
• احتمال تحالف روسيا مع الصين.
• هيمنة روسية على أوربا من خلال إمدادات الطاقة.
• التصدي لخطط روسيا التمدد خارج إطارها السياسي والجغرافي.
• عدم السماح بالنمو الاقتصادي الروسي ليصبح اقتصاداً عالمياً.
في تحليل هذه المعطيات، هناك تياران، أو احتمالان، الأول محاولة احتضان روسيا وإعطاء جرعة دفء للعلاقات، كيلا يمنح لروسيا المبررات بالارتماء في تحالف مع الصين.
تخشى الولايات المتحدة خشية عميقة أن تهيمن روسيا على أوربا الغربية، لأن الأوربيون دفعوا غاليا ثمن الحروب الساخنة والباردة معظم القرن التاسع عشر والعشرين، والأرض الأوربية ما تزال مليئة بقنابل الحرب العالمية الثانية، وملايين الأسر تمزقت، شر ممزق وتبعثرت في أصقاع العالم، وما تزال تعاني من الفجوات في التراكيب السكانية، وأجواء التوتر في العلاقات تلحق بها أضرار على المدى القريب والبعيد. وبأستثناء بريطانيا التي علاقتها وتحالفها الاستراتيجي ليس موضع نقاش، وبدرجة ما بولونيا، ودولاً أخرى متفاوتة في التحامها بالسياسة الأمريكية.
هذه المعطيات وغيرها تشير إلى رغبة أوربا عن الصراعات الحادة أو المسلحة، فالولايات المتحدة لم تسقط عليها حتى رصاصة طيلة الحروب الماضية، ولكن أوربا ما زالت تعاني لليوم من آثارها، والروس بدورهم لن يكونوا من الساعين للحروب أو محبذين لها، ولكنهم يدركون أن وصول الأمريكان تحت مظلة الناتو إلى أوكرانيا يجعل موسكو أمام أسلحتهم التقليدية ... وهذا ما يسمح لهم بابتزاز له طابع القوة والواقعية.
بإلقاء نظرة على الشكل البياني، تلاحظ الموقف السكاني في ألمانيا يشير نحو ربع السكان 24,93 مليون هم خارج سن العمل، و 15,3 مليون هم تحت سن العمل، أي 39,96 مليون من السكان هم خارج سن العمل، وهذا يمثل نصف الشعب الألماني البالغ 82 مليون نسمة.
إذا كانت هذه المؤشرات(وهي ابتدائية) هو حال واحدة من أقوى البلدان الأوربية(ألمانيا)، فكيف الحال في سائر بلدان أوربا الغربية التي تعاني من مشاكل عديدة اقتصادية واجتماعية وكادت أن تواجه الإفلاس أعوام 2017 / 2018، (اليونان، أيرلندة، أسبانيا، إيطاليا... الخ) لن تكون أجواء التوتر إلا سبباً في مضاعفة متاعبها لا تقليصها. وفوق هذا أن واشنطن ولندن مقتنعتان أن روسيا سوف لن تشن حرباً، بل ستخطف منها حلفاءها .
بالطبع الولايات المتحدة لا تفعل كل ذلك من أجل قيم نبيلة ومن أجل الشعب الأوكراني محض ..! بالطبع لديها مصالحها وأهدافها، وهذه الحرب لو اندلعت، فسيدفع تكاليفها الشعبان الأوكراني والروسي أولاً، الولايات المتحدة ستلعب على الأرجح دون الممون بالسلاح، وربما بالمال، والإسناد السياسي، وسوف تتجنب المواجهة المباشرة مع الروس، ومصلحتها تكمن، في توتير الأجواء في أوربا، فتشد من العلاقات المرتخية، وتكلف الروس خسائر، وستعرض روسيا لعقوبات اقتصادية، قد تصيب بعض الشلل في أفرع الصناعات ومرافق الإنتاج الروسية، وتعرض نفسها للأوربيين، " أنا من يحميكم من الخطر الروسي " والأوربيون بما فيهم الأوكرانيين، يعلمون أن الخطر ليس جاداً ولا وشيكاً بهذه الدرجة، بل أن الأوكرانيين يدركون تمام الإدراك أن من يريد إشعال نار صراعات مسلحة إنما يفعل ذلك لتحقيق مصالح سياسي واقتصادية. وأن بلادهم (أوكرانيا) ستتحول إلى ساحة صراع بين روسيا والولايات المتحدة والسائرين في فلكها. وأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أكد أن روسيا لا تهدد باجتياح أوكرانيا.
الولايات المتحدة تطرح شعارات سياسية (حقوق الإنسان، الديمقراطية) من أجل مواقف سياسية، فهي ترفض على سبيل المثال رغبة الأقلية الأوكرانية في نيل حقوق، وحتى تدفع الحكومة الأوكرانية بعد الحوار مع الأقلية الروسية في مقاطعاتهم، كما رفضت قرار الأقلية الأبخازية في جورجيا، وأوستينيا الجنوبية في القرم.
الولايات المتحدة تعتبر مناورات الجيش الروسي داخل أراضيهم تهديداً للأمن والسلام، ولكنها لا تعتبر تحركاتها من الولايات المتحدة حتى بولونيا والنرويج والبحر الأسود تهديداً، وتشيع الولايات المتحدة أن روسيا ستجتاح أوكرنيا لتبرر تحركاتها، والحكومة الأوكرانية نفت رسمياً الأنباء التي تتحدث عن هجوم متوقع عليها. في حين رفض وزير خارجية بريطانيا أن بلاده ترفض فكرة تقييد أو التعهد بعدم توسيع حلف الناتو إلى ما وراء خط الأودر والنايسة (الحدود بين ألمانيا وبولونيا). وحتى الأوربيون بدؤا يعبرون عن انزعاجهم من الطلبات الأمريكية الكثيرة، والتورط في إشهار العداء لروسيا والقيام بفعاليات خطيرة (كعبور الأسلحة والقوات عبر مطاراتهم وأراضيهم وأجوائهم). في حين رفضت ألمانيا عبور طائرة تحمل شخصيات عبر أجواءها إلى أوكرانيا، نأيا بنفسها عن صراع محتمل.بل أكد السيد شولتس مستشار ألمانيا في أعقاب محادثاته مع أمين عام حلف الناتو، أن ألمانيا سوف لن تزود أوكرانيا بالأسلحة. وهو موقف يعبر عن خصوصية واضحة حيال الأزمة. وبوضوح أكبر عبر عن ذلك اللقاء بين المستشار الألماني شولس، والرئيس الفرنسي مكرون في برلين (25 / كانون الثاني / 2022) أنهما سيواصلان مساعيهما من أجل التوصل لحلول دبلوماسية.
والأوربيون يدركون أن مصالحهم في أوربا، والمخاطر المحدقة بهم هي من التخوم القريبة، وروسيا ليست من ضمنها، )على الأقل في المرحلة الحالية ولأمد غير منظور، لذلك ليس من الحكمة أن نعمق الحلاف رما البسيط، إلى حالة العداء والصراع المسلح من أجل مخاطر وهمية. وإذا كانت الصين هو المتسيد المقبل للساحة الدولية، فمن المصلحة الاصطفاف مع روسيا القريبة هنا في القارة خير من عبور الأطلسي. الأمريكيون أدركوا بعمق أن الأوربيين لا يمكن الاعتماد عليهم في أزمة متصاعدة، فالألمان وربما مثلهم الفرنسيون، وربما أوربيون آخرون، موقفه يشير إلى " لسنا مع التوتر والتصعيد والصراعات المسلحة، ويرسلون بذلك إشارة واضحة لروسيا، نحن لسنا مع تصعيد أمريكا وبريطانيا، ولكننا لا نقبل بأعمال توسع وضم وإلحاق ...! ".
والولايات المتحدة لم تكن هذه الصورة بعيدة عن أذهانها، لذلك قامت بتمتين علاقاتها مع أستراليا في ساحة النزاع المقبل مع بريطانيا التي شرعت مؤخراً بتطوير سلاحها البحري ليكون بدرجة عالمية متقدمة لتلعب دوراً سياديا في المحيط الأطلسي. وهي (الولايات المتحدة) تدفع باتجاه موقف تضع فيه روسيا في زاوية محرجة، غير قادرة على تحقيق مصالحها، ولكن سياسة الولايات المتحدة تفتقر للمصداقية، وحلف الناتو يفتقر إلى الوحدة بين أعضاءه.
فالموقف الروسي يعتمد على مواصلة السيطرة على الأقاليم التي يقطنها أغلبية روسية (إقليم الدونباس)، وستواصل لعب دورها المؤثر داخل أوكرانيا.والشعب الأوكراني يدرك أن لا مصلحة له بمناكفة روسيا الجار التاريخي والتقليدي للاوكرانيا.