ريم العبلي لاجئة عراقية شابة بحنكة سياسيين مخضرمين
العرب/برلين – حين ولدت وزيرة الدولة الألمانية لشؤون الهجرة ريم العبلي رادوفان مطلع تسعينات القرن الماضي، كان عليها أن تعيش رحلة اللجوء بنفسها، وسط أسرة لجأت إلى موسكو، مسقط رأس طفلتها، قادمة من العراق، قبل أن يحط بها الرحال في ألمانيا أخيرا في العام 1996 للعيش في مدينة شفيرين بولاية مكلنبورغ – فوربومرن.
نشأت العبلي محمّلة بكل إرث اللاجئين الثقيل، وما كابدوه في بلدانهم الأصلية، فجدها محمد صالح العبلي كان قياديا في الحزب الشيوعي العراقي، تم إعدامه نتيجة لموقفه السياسي على يد النظام الذي حكم العراق في الستينات، تعلّمت في برلين وتخرّجت من جامعتها الحرة في مجال العلوم السياسية، وفي صفوف الحزب الديمقراطي الاجتماعي برزت العبلي مبكرا، حتى تم تكليفها كمفوضة لحكومة ولايتها لشؤون الاندماج.
ألمانيا تتحوّل
ألمانيا التي تشهد وللمرة الأولى في تاريخها برلمانا فيدراليا جديداً يضم 83 نائبا من أصول أجنبية، بينهم 9 نواب عرب و18 نائبا من أصول تركية، ينتبه مواطنوها إلى أن هذه الفتاة اللاجئة التي فازت مع هؤلاء بمقعد في البوندستاغ تحمل في جعبتها أكثر مما قد يتوقعه منها ناخبوها، فهي لم ترفع شعارات الدفاع عن المهاجرين وقضاياهم وتربطها بالدولة وحسب، بل انغمست في صميم برامج حزبها، منقّبة عن أخطائه التي جعلته يتراجع في سنوات حكم المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، ثم يعود ليتقدّم من جديد مع فوز أولاف شولتس. تقول العبلي “يكمن السر هذه المرة في وجود برنامج مستقبلي جيد جدا، برنامج انتخابي كان قد نشر منذ فترة طويلة أيضا. وقد أعلن عنه مرشحنا لمنصب المستشارية مبكراً”.
لعل هذا ما يبرّر أن الأصوات التي حصلت عليها العبلي لم تكن قادمة من بيوت المهاجرين، بل من سكان الولاية الألمان أنفسهم، لأن ولاية مكلنبورغ – فوربومرن لا يوجد فيها الكثير من الألمان من أصول مهاجرة، كما تقول.
البنية التحتية والرقمنة
تتحدث العبلي في خطابها السياسي عن أمور أبعد من قضايا الهجرة، مثل البنية التحتية، والرقمنة والنقل الداخلي والأمن، لقناعتها بأن ألمانيا بحاجة إلى استثمارات أكثر في تلك القطاعات.
العبلي التي تعدّ أصغر وزير دولة في ألمانيا تتصدى لملفات ثقيلة بالإضافة إلى ما سلف، فهناك مشكلة الفرص المتكافئة للجميع في قطاعات التعليم والتأهيل المهني، وهي لم تتردّد في طرح هذا التحدي في كلمتها أمام البوندستاغ في منتصف يناير من العام الحالي حين قالت “سوف نعمل على أن تكون المؤهلات هي العامل الحاسم، وليس الاسم أو الشكل أو الأصل”.
ولا تخفي رغبتها في تحرير الحزب الذي تنتمي إليه من هيمنة السكان الأصليين، وجعله أكثر تنوعاً، سواء من حيث الثقافات أو الأجيال، فهي تقول “يجب أن نصبح أكثر جاذبية لجيل الشباب ولأصحاب الأصول الأجنبية”، لأن ذلك سيعود بنتائج أكبر من تلك التي تم اختبارها في الانتخابات الأخيرة.
العبلي تتحدث عن أفكار جديدة لإدخال المزيد من المهاجرين إلى وظائف الدولة مثل سلك الشرطة والنظام التعليمي ومختلف الدوائر الرسمية
في مخيّم اللاجئين
لم تفارق العبلي الحياة التي عاشتها طفلة، حتى حين اندفعت في العمل السياسي والاجتماعي، فقد عملت في طفولتها في الفريق الذي يستقبل اللاجئين في أحد المخيمات، المكان ذاته الذي استقبل أسرتها. وحين كبرت اختارت العمل في صفوف الفريق التطوعي لمركز إطفاء الحرائق، وتروي باستمرار كيف مكنها ذلك من أن تلتقي بالناس، وتجالس كبار السن في المقاهي، لتبحث عما تسميها بالعوامل المشتركة بينهم جميعاً. وكانت حياتها الخاصة صورة عن وعيها السياسي من جهة ثانية، فقد ارتبطت بالملاكم دينيس رادوفان، وهو لاجئ روماني هرب والداه إلى ألمانيا خوفاً من قبضة تشاوشيسكو الرهيبة آنذاك.
الكثير من جينات جدّها تسري في عروق العبلي، فالحياة الاجتماعية والثقافة والنضال من أجل التغيير كانت قد دفعته مبكراً إلى العمل في الفن والمسرح كما في السياسة، وبين الأوساط الاجتماعية كما بين النخب، منطلقاً من مكتبه الذي فتحه في شارع الكفاح ببغداد. وهي تعي ذلك جيداً وتعلنه حين تقول “أصولي العراقية معي دوما، مع علمي أن السياسة يمكن أن تفعل الكثير، ولأن والديّ قَدِما من بلد عانى من الحروب، أفهم أن السياسة تعني تحمل المسؤولية”.
استراتيجية التنوّع
في الآونة الأخيرة، وقبل اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، وتدفق ما يربو على 18 ألف لاجئ أوكراني إلى ألمانيا، كانت العبلي تتحدث عن مشاريع جديدة للاندماج من خلال إدخال المزيد من المهاجرين إلى وظائف الدولة مثل سلك الشرطة والنظام التعليمي والمدارس ومختلف الدوائر الرسمية. وقد أعلنت العبلي خلال الأيام الماضية أن ألمانيا مستعدة بشكل جيد لاستقبال القادمين الجدد، مبينة أن الخبرات والهياكل التي اُكتسبت بعد موجة اللاجئين في العام 2015 يُستفاد منها الآن.
تقول العبلي في حوار مع “راينيشه بوست” الألمانية إن “عددًا كبيرًا جدًا من الشباب الذين لم يولدوا في ألمانيا لا يضعون العمل في وظائف بدوائر الدولة ضمن احتمالاتهم”، وتضيف أن “هناك حاجة كبيرة إلى المزيد من التنوع من أجل تجاوز التحفظات لدى كلا الجانبين، ولزيادة تركيز الدوائر الرسمية على المهاجرين هناك حاجة إلى مزيد من التنوع. ويجب على الحكومة الفيدرالية أن توظف المزيد من الأشخاص ذوي خلفية مهاجرة”.
وهي تعرف جيدا أن إدماج المهاجرين كما هو مأمول، سيواجه مشكلة النسب المئوية التي تعطي الأفضلية للمواطنين، سواء تم إعلان ذلك أو إنفاذه بشكل ضمني، غير أنها تحاول جاهدة التغلب على كل العقبات من خلال الفرص المتاحة، لأن أكثر من ربع المواطنين في ألمانيا، حسبما تقول العبلي، ينحدرون من أصول مهاجرة. وهذا يجب أن ينعكس على سوق العمل وفقا للاستراتيجية التي أعلنتها الحكومة تحت عنوان “استراتيجية التنوّع”.
عنصرية وكوفيد
المشكلات الحساسة التي تواجهها العبلي لا تقتصر على العمل والتعليم والاندماج في ما يتعلق بالمهاجرين، بل تطال حتى مسألة التعويضات المستحقة للمتضررين من الحوادث العنصرية التي وقعت وتقع على أيدي اليمينيين، فهي تتابع وبشجاعة نادرة، على سبيل المثال، ما يحتاجه ذوو ضحايا هجوم هاناو العنصري الذي وقع قبل عامين حين فتح ألماني متعصّب النار على 9 مهاجرين ما تسبب بمقتلهم، مشيرة إلى أن “هناك خدمات مالية يحصل عليها متضررون بعد وقوع هجمات، ولكن يتعين علينا حماية الضحايا على نحو أكثر شمولا”. فالقصة لا تنتهي لدى العبلي عند التعويض المالي، إنما تتطلب ما تصفه بـ”التشارك الوجداني”.
أما في موضوع جائحة كوفيد – 19 والسلالات المتطورة من الفايروس، فقد ساد اعتقاد خاطئ في العديد من البلدان ومن بينها ألمانيا، أن هناك ارتباطاً بين نسبة الإقبال على تلقي اللقاح وبين الأصول العرقية للسكان، والمقصود أن المهاجرين أقلّ تقبلاً للتطعيم، لكن معهد “روبرت كوخ” الألماني نفى ذلك، بعد أن كان رئيسه قد صرّح السنة الماضية أنه يشعر أن الحديث عن واقع أن العديد من مرضى كورونا في أقسام العناية المركزة لديهم خلفيات مهاجرة من المحرّمات. وحين تولّت العبلي المسؤولية سارعت إلى المطالبة بخطاب عقلاني يستهدف الجميع، بمن فيهم المهاجرين للتوعية بضرورة تلقي اللقاح، وأضافت في حديث مع برنامج “مورغن ماغازين” أنها تعول على “تقديم حملات توعية بلغات مختلفة”.
كما قامت خلال شهر فبراير الماضي بزيارة إلى حملة تطعيم بحي نويكولن في برلين، وهو حي معروف بنسبة عالية من السكان المهاجرين.
بوابة الاقتصاد
تقود العبلي مشروعها الخاص الذي يقوم على تبيين الحاجة إلى التعديل في أوضاع التنوّع والتعددية في نطاق الخدمة العامة بما في ذلك، كما تقول، الأجهزة الأمنية وعالم السياسة. وحسب أرقام الوزيرة فإن ألمانيا لديها نقص كبير في العمالة الماهرة يظهر بشكل أساسي في المناطق الريفية. وهي تستند إلى إحصاءات وكالة العمل الاتحادية حين تقول “نحتاج سنويا إلى حوالي 400 ألف إنسان من أجل سد النقص في العمالة الماهرة والمتخصصة، لاسيما في مجالات الطب والرعاية والبناء الذي نفتقد فيه إلى الأيدي العاملة”.
من إعلانات العبلي المثيرة قولها إن كل خامس مستثمر في ألمانيا ينتمي إلى أصول أجنبية مهاجرة، وأن هذا يبين أن أصحاب الأصول الأجنبية يُسهمون بمقدار كبير في تأسيس البلاد. وهذا ما يجب أن يجري تعزيزه، لأن ألمانيا من مصلحتها، ضمن إطار المنافسة العالمية، العمل على أن تكون جذابة لأصحاب الأدمغة والمبادرة.
الوزيرة الشابة التي تتقدم بقوة في الواقع السياسي والاجتماعي الألماني ستواجهها عقبات كبرى، وسيكون عليها أن تكون حذرة في مسائل ما تزال تتعامل معها ببراءة البدايات، إلا أنها تظهر حنكة لافتة في اغتنامها لفرص اللحظة المواتية، فتجدها تسارع إلى خلق رد على كل المستجدات يسدّد نحو أهدافها التي يبدو أنها تمضي عليها بعناد وإصرار عراقيين أصيلين، ووسط ترحيب كبير حظيت به العبلي من جانب سياسيين ومسؤولين عرب وعراقيين، يتساءل كثيرون لماذا لا يقوم هؤلاء بمثلما تحارب من أجله هذه السياسية الشابة وهم، على رأس المسؤولية العامة، ويعملون في بلدانهم الأصلية وفي بيئات يفترض أنها تحتاج إلى هذا أكثر من بلاد اللجوء؟