مفاوضات فيينا تتأرجح بين القبعة والعمامة
علي الكاش
مفاوضات فيينا تتأرجح بين القبعة والعمامة
منذ شهر آذار المنصرم لم تستجد اي تطورات مهمة على ساحة الملف النووي الايراني، على الرغم من الوعود التي قدمها الرئيس الامريكي الحالي بايدن في حملته الإنتخابية، وتهجم فيه على سلفه الرئيس ترامب واعتبر عمله تافها ومتهورا في الخروج عن الإتفاقية النووية مع النظام الايراني، مؤكدا على تجديد التفاوض لغرض إعادتهم الى الإتفاق النووي، وإحيائه مجددا، والطلب من ايران تخفيض نسبة التخصيب الى الحد الأدنى الذي لا يهدد السلم والأمن الدولي عبر الدخول الى المحفل النووي بجانبه العسكري، وأن التفاوض مع النظام الإيراني برأي بايدن هو الطريق الأفضل وربما الوحيد لإحياء الإتفاق النووي.
إتخذت الإدارة الأمريكية طريقا غير مباشر للحوار مع النظام الإيراني، بأن يتم ذلك عبر الحوار مع الدول الأعضاء في الإتفاقية في العاصمة فيينا، وتقدم خلاصة المفاوضات الى الإدارة الأمريكية لتحديد موقفها من نقاط الخلاف ومسيرة المفاوضات. وبسبب التعثرات المستمرة في الحوار، قرر الجانب الأمريكي التنازل عن موقفه السابق، والتفاوض بشكل مباشرة مع ايران بوجود بقية الأطراف لتذليل المصاعب، وحلٌ نقاط الخلاف أو حلحلتها على أقل تقدير.
المفاوضات الأخيرة لم تستكمل حيث طلب الوفد الإيراني العودة الى طهران لتسلم توجيهات المرشد الأعلى حول ما تم التوصل اليه من نقاط، إتفاق وخلاف، والعودة مجددا الى فيينا لإستكمال المفاوضات. لكن الغريب في الأمر ان الجانب الإيراني لم يوفِ بوعده بالعودة الى فيينا لإكمال المفاوضات، بحجة انه لا جدوى من إستمرارها في ظل التعنت الامريكي، فقد وصل الأمر الى الحد النهائي برأي النظام، فأما التوقيع على الإتفاق او تجميد المفاوضات. بمعنى أما رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب او لا توقيع للإتفاقية.
كانت العقدة الرئيسة في سير المفاوضات تتلخص في الطلب الجديد الذي أصر عليه النظام الإيراني برفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب الدولي، وهو أمر لم يطرح خلال المفاوضات السابقة، وكان ردٌ الإدارة الامريكية التالي" بصرف النظر عن المفاوضات النووية فإن رفع الحرس الثوري، يتطلب من ايران إتخاذ إجراءات معينة وإستمرارها، وبالتأكيد إذا زعمت القيام بشيء ما، ثم لم يتم، فإن رفع التعيين، يمكن دائما عادة فرضه، كما تعلمون تأريخ إيران بالنسبة لمسألة تصنيف الحرس الثوري".
تكمن الخطورة في تنفيذ الشرط الإيراني في أن رفع صفة الإرهاب عن الحرس الثوري يعني إطلاق يده في الإستثمارات الخارجية والحصول على عوائد إضافية، علاوة على إطلاق أرصدته المجمدة، وتفعيل دوره السياسي والإقتصادي العالمي، وبالتالي تنشيط دوره في تهديد أمن دول الجوار ومنطقة الشرق الأوسط، وتوسيع رقعة الإرهاب جغرافيا.
حاول (انريكي مورا) المنسق الأوربي للتفاوض مع ايران، الخروج من عنق الزجاجة بمقترح جديد، سبق ان تحدث به (جوزيف برويل) منسق السياسية الخارجية في الإتحاد الأوربي لصحيفة (فايننشال تايمز) بما يسمى جهود الفرصة الأخيرة. ولم نعرف ان كان بموافقة الإدارة الأمريكية أو بمعزل عنها، ولكن منطقيا لابد انه استشارها، فلا يمكنه العمل بمعزل عن رأيها في أمر خطير كهذا. فقد قدم الى ايران مقترحا وسطا يتلخص برفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب والإبقاء على فيلق القدس، منوها انه لا يوجد حلٌ آخر، ولابد ان تكون إجابة ايران واضحة وفورية بلا تفاوض او مهلة، وهذا ما سيقوم به خلال زيارته الى ايران.
علما ان الإدارة الأمريكية حددت بشكل مباشر بأن رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب يتطلب ان يتوقف عن تدخلاته في شؤون بقية الدول الداخلية، والتخلي عن رعاية وتدريب وتسليح الميليشيات المرتبطة به والتي تهدد أمن دول الجوار ودول الشرق الأوسط، على اعتبار ان الهدف الرئيس من تشكيل الحرس الثوري والذي كان يضم (125) عنصرا كان حماية الثورة الإيرانية، ثم اخذ يتوسع تدريجيا وتمتد أذرعته طويلا وفي عدة إتجاهات ولعدة مهمات. ومن المعروف انه لا علاقة للحرس الثوري بوزارة الدفاع الايرانية، بل هو يرتبط بشكل مباشر بمرشد الثورة الايرانية، ويعتبرأكثر قوة وتسليحا وعدة من الجيش الايراني نفسه، وتشعب عمله من حماية الثورة الى جوانب سياسية واقتصادية وثقافية، ومع هذه كانت التوجهات داخلية تخص ايران في البداية.
بعد عام 1990 تغيرت تمددت أذرعة الحرس الثوري من داخل ايران الى خارجها، فتم تشكيل فيلق القدس بزعامة الجنرال قاسم سليماني، وتولى الفيلق دعم الميليشيات الشيعية في العراق، وحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، وشبيحة الأسد في سورية ومنظمتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة. وأتخذ من القدس اسما له ،للتناغم مع العواطف العربية والإسلامية إتجاه فلسطين بإعتبارها قضية العرب المركزية، ومحور نضالهم للتحرير. مع ان هذا الفيلق قام بجولات وصولات عسكرية في معظم دول الخليج العربي وخارجها، ولم نشهد له صولة واحدة في القدس او الجولان المحتل، حارب في كل مكان ما عدا القدس، القدس مجرد ورقة تاجر بها لكسب الشيعة العرب وبعض الجهلة الى صفه، ومات أصحاب الأقلام المأجورة يطبلون له، فأفعال الفيلق تتتعارض مع الأقوال، والتهديدات الايرانية بإزالة اسرائيل من الخارطة وخلال سبعة أيام وغيرها من التصريجات هي مجرد هواء في شبك.
المأزق الحالي في الملف النووي ثنائي الإهتمام، اي امريكي وايراني، فإيران مصرة على موقفها من رفع الحرس الثوري وفيلق القدس من قائمة الإرهاب، والولايات المتحدة مصرة على ابقاءهما في قائمة الإرهاب. وربما الأمر بعتبر أصعب بالنسبة للإدارة الأمريكية لأنها تحتاج الى:
اولا: موافقة الكونغرس الامريكي، وهذا من الصعب إن لم يكن من المستحيل حصوله، على العكس من ايران، فموافقة المرشد الاعلى فقط تفي بالغرض.
ثانيا. فاعالية اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة ، وتأثيره على قرارات الكونغرس، الذي يرفض التوصل الى إتفاق نووي مع إيران.
ثالثا: الخشية من ردة فعل دول الخليج العربي من هذا الإتفاق، سيما ان أزمة الطاقة تلقي بظلالها على الوضع الدولي، ويحاول الرئيس بابدن خطب ود هذه الدول، سيما المملكة العربية السعودية والإمارات المتحدة، حيث تشهد العلاقات الأمريكيه الخليجية إنحدرارا مهولا بعد تغيير البوصلة السعودية من الولايات المتحدة الى الصين وروسيا.
كما المملكة العربية السعودية لا يمكن ان تغفر لإدارة بايدن بوصفها (الدولة المنبوذة)، وترديد إسطوانه مقتل عدنان خاشقجي في كل مناسبة، فقد صار هذا الحدث رديفا للرئيس بايدن في الإعلام الأمريكي، حتى سَموا شارعا بإسم خاشقجي.
رابعا: لا يمكن للرئيس بايدن أن يتعهد بضمان تحقيق طلب ايران بموافقة الكونغرس على عدم تغيير الإتفاق النووي في حال تغيير الرئاسة مثلا من الحزب الديمقراطي الى الحزب الجمهوري، فهذا يتوقف على طبيعة الحزب الحاكم وعدد الأصوات في الكونغرس.
خامسا: نجاح مجلس الشيوخ في التصويت (86 صوت مقابل 12 صوت) على مشروع قانون عدم السماح لبايدن (قانون غير ملزم) بتوقيع الإتفاق النووي مع النظام الإيراني، وتفاقم الأمر سوءا بتصويت لاحق غير ملزم أيضا بمنع إدارة بايدن من رفع فيلق القدس من قائمة الإرهاب الدولي (66 نائب مقابل 13 نائب).
المشروع الأوربي المقترح
بالطبع ان المقترح الأوربي الجديد لم يأتِ عن فراغ، فوراء الأكمة ما ورائها، ونقصد بذلك الحرب الروسية الأوكرانية وازمة الطاقة في اوربا، ويمكن وضع النقاط على الحروف من خلال توضيح:
اولا: ترى الدول الأوربية ان الإتفاق مع ايران سيسمح بتدفق البترول الإيراني الى السوق الدولية ويعوضها عن البترول الروسي، بعد أن فرضت روسيا التعامل بالروبل بدلا من الدولار على الدول المستوردة لنفطها وغازها. علاوة على توفر إمكانية إنخفاض سعر البترول في السوق العالمية.
ثانيا: عدم فسح المجال للولايات المتحدة واسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، بمعنى فتح جبهة جديدة، فالحرب الروسية الأوكرانية لا تزال مشتعلة، ولا يمكن تحمل عبء حربا أخرى. فأوربا منشغلة بجناحها الشرقي، وتقدم مساعدات باهضة لأوكرانيا.
ثالثا: ان إنتاج ايران قنبلة نووية سيدفع المملكة العربية السعودية حتما الى تحقيق توازن القوى عبر إمتلاك مثيلها بالتعاون مع الباكستان تصنيعا او شراءا، فقد كانت السعودية الممول الرئيس لصناعة القنبلة النووية الباكستانية، وهذا الأمر سيفاقم المشكلة، ويزيد من حدة التوتر في منطقة الشرق الأوسط.
رابعا: تحاول اوربا مدٌ ذراعها الى منطقة الشرق الأوسط ولاسيما دول الخليج العربي بعد إنحسار العلاقات الأمريكية الخليجية الى حد فاق التوقعات، انها فرصة ثمينة لأوربا لا يمكن تفويتها. فليس من المعقول أن تبقى مكتوفة الأيدي، وهي تجد تفرد روسيا والصين بدول الخليج العربي، ولابد ان تمليء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة.
الخلاصة
لا الرئيس الأمريكي قادر على ان يزف الفرحة لسلفه ترامب بإعلان فشل وعده بإحياء الإتفاق النووي، والذي روج له خلال حملته الإنتخابية، ولا الخامنئي قادر على إعلان فشل الإتفاق بسبب الأوضاع الداخلية المتأزمة، فقد صرحت (أنيسة خزعلي) نائبة الرئيس الإيراني لشؤون المرأة والأسرة بأن إلإقصاد الايراني يتعرض الى نكسة كبيرة ولا يمكن أن يطاق في المستقبل. ويعاني أكثر من نصف سكان البلاد البالغ عددهم نحو 85 مليون نسمة من أزمة اقتصادية ومعيشية وارتفاع شديد في أسعار السلع الأساسية.
كما ان الغليان الشعبي في الداخل بدأ يشتد، ويهدد مصير النظام. فإيران اليوم تنحدر الى الهاوية جراء السياسات الفاشلة التي ينتهجها النظام على الصعيدين الداخلي والخارجي، وسيطرة الحرس الثوري على جميع مقدرات الدولة، مع معاناة شعبية على جميع الصُعد، من فقر ومجاعة وبطالة، وتدني قيمة العملة، ومستوى الخدمات بشكل عام، وفساد حكومي كبير، لذا الثورة ضد النظام قادمة لا محالة، وملامحها صارت واضحة للجميع، والمسألة مسألة وقت ليس إلا، والبديل موجود، فقوى المعارضة الايرانية ترفع رصيدها الجماهيري يوما بعد يوم، في حين يتناقص رصيد النظام الإيراني داخل ايران وخارجها بشكل ملفت للنظر.