' فضاء اللحظة الجمالية وأثارتها في قصائد( ما تأخر من القول) لحميد سعيد
د. عصام شرتح
فضاء اللحظة الجمالية وأثارتها في قصائد( ما تأخر من القول) لحميد سعيد
الشعرية لحظة جمالية استثارية تخلق متعتها من الفضاء الجمالي للمتخيل الإبداعي المثير الذي تشكله القصيدة بالانتقال من متحول جمالي من متحولاتها النصية؛ إلى متحول جمالي آخر؛ وإن أي ارتقاء جمالي في المتخيل الجمالي الشعري يرجع إلى فضاء اللحظة الإبداعية الخلاقة التي أنتجها نص من النصوص، وحرك إيقاعاتها الجمالية؛ عبر المتحولات التصويرية وإيقاعاتها النصية المتحركة أو المتحولة جمالياً؛ فاللحظة الشعرية أو مكمن اللذة في تجسيد اللحظة الشعرية جمالياً تكمن في طبيعة التعبير، وأسلوب الشاعر الجمالي في خلق المثير النصي التكاملي الذي يحرك الرؤى الشعرية، ويرتقي بالقيم الجمالية؛ وقد سبق أن أشرنا إلى أن " النص الشعري كتلة قيم جمالية تفاعلية متحولة من أول لبنة تشكيلية في بنائه الفني المعماري إلى آخر لبنة في تكوينه الأسلوبي المتفاعل؛ ولهذا ترتقي القصيدة جمالياً من خلال تفاعل النص ككتلة نصية، وليست الاقتصار على الفاتحة النصية الاستهلالية؛ فالشاعر المبدع في نصه الشعري هو الذي يجعل نصه الشعري كتلة متكاملة في خلق استثارته الجمالية، وتحقيق التفعيل الجمالي المثير في بناه ومحفزاته النصية"(1).
فالشعر كتلة شعرية قيمية متحولة، وهذا ما أشار إليه عبد القادر فيدوح بقوله:" إذا كان الشعر مدعاة لانبثاق تفتح الروح نحو كل ماهو كشفي وسحري وغير محدد- كما يقال- فإن قيمته لاتسمو إلا بمقدار التوتر الذي ينتاب الشاعر، بتناسب طردي بينه وبين رؤاه؛ وفي تماسك يربط بين مكونات النص وتجربة الضمير الجمعي،وبعلاقة تماثل من جهة الخصائص الدلالية بين جوهر الحياة وقلق السؤال. وإذا كانت القصيدة وليدة الفترات المأزومة؛ فإن الشاعر ابن مظاهر الحيرة في غياب التجانس المطلوب؛ومن ثم فهما وجهان لعملة واحدة؛ ولاضير في تعاضدهما، بل إن كل منهما إثراء للآخر، بحيث لاتوجد قصيدة من دون حيرة؛ ولا شاعر إلا في جوهره اضطراب يدفع به إلى الرغبة في فهم الحياة؛ وفك الملغز والملتبس بينه وبين الحقيقة الغائبة؛ ولعل التطور الحاصل بينهما نابع في حقيقته من حيرة الرؤيا في العملية الإبداعية، وتوتر السؤال في الرؤيا الكشفية؛ وإذا كان لنا أن نجمع بين الحيرة والسؤال، أو بين الرؤيا والكشف في القصيدة، فإن التعليل كافٍ في القول:إنها نبض إيقاع الحياة الذي يأخذ بوعي الشاعر ليقوده إلى إمكان معرفة مجاهل أعماقه، بعد أن عجنته حروفه بخميرة الحيرة لتشكلا معاً صورة تأملية في جدل حواري"(2).
والمثير حقاً أن فنية اللحظة الجمالية في تشكيل القصيدة تتأتى في الطريقة الأسلوبية الجمالية في تحريك الرؤية الشعرية بما يضمن لذة تأثيرها وتفعيلها الجمالي في المتلقي، وهذا يتبع درجة الحنكة الجمالية والقيمة الأسلوبية العالية التي تستحوذها القصيدة في تحولاتها التصويرية وحراكها الجمالي الأسلوبي، والفاعلية العليا في تمثيل اللحظة الشعورية أو اللحظة الشعرية في طزاجتها الشعورية والمشهدية،؛وإن ارتقاء اللحظة الشعرية جمالياً يكمن في منابع الدهشة والاستثارة التي تصيبها الرؤية الشعرية في متحققاتها النصية ومتحولاتها الخلاقة.
والسؤال الذي نطرحه على خارطة النقد الجمالي: كيف وظف حميد سعيد اللحظة الشعرية جمالياً ومثلها بإيقاعات تصويرية تنم عن اغترابه الزمكاني المفتوح، وحراك الرؤى التي تثيرها في النص الشعري،؟ وهل خلق حميد سعيد ما يسمى الاغتراب الجمالي الفني في تمثيل اللحظة الشعرية بكل طزاجتها المشهدية وحرارتها الشعورية؟ هل صنع حميد سعيد القيمة المتحولة في تحريك الأحداث والرؤى بما يخدم فاعلية التنقل الجمالي من لحظة جمالية مشهدية إلى أخرى؟ وكيف وظف المتحول الجمالي الأسلوبي في تحريك الرؤى الاغترابية زمكانيا أو فنياً؟
إن قارئ قصائد حميد سعيد يضعنا على محراب التفعيل الجمالي في حراك الرؤى الشعرية، وتمثيل اللحظة المشهدية، أو الحدث المشهدي البصري بقيمة ترسيمية عالية، وكأن المشهد الشعري تلتقطه عين الكاميرا المتحركة، وتبث الأشكال المرئية بترسيم واقعي يفيض بالمشهدية والحراك البصري، وهذا يعني أن التجريد المشهدي البصري لعبة هذه القصائد في بث لحظات العجز والتصحر في مرحلة العمر ، بقيم بصرية ورؤيوية دالة مثل ( العكاز )و( الشيخ) وغيرها من المؤولات الدلالية التي تدخل القارئ في صيرورة الترسيم التصويري الدقيق وتنوع الرؤى والدلالات والمؤثرات النصية المشهدية المغتربة، ولبيان سحر تفعيل اللحظة الجمالية في قصائد( ما تأخر من القول) لابد من إبراز الجانب النقيض ،أو الجانب الملتف فلسفيا في قصائد(أدونيس) لنظهر للقارئ حيوية اللحظة الشعرية وترسيمها جمالياً وفق المؤثرات والنقط المفصلية التالية:
1-فضاء اللحظة الجمالية( رؤيويًا):
إن الشعر الرؤيوي هو الشعر الاستشرافي الماورائي الذي يبحث في المجردات والماورائيات وما يختزنه الأفق من مكنونات ورؤى ومؤثرات وجودية عميقة؛ ذلك أن الشاعر الحق" هو الذي ينفرد بطاقة رؤيوية تنفد إلى جوهر الحقائق الأساسية في الوجود، وبقدرة على التعبير تتخطى اللغة التقريرية إلى لغة مجازية إيحائية؛ وعندما تتعمق رؤيا الأديب، وتتضح يبلغ تعبيره أبعاداً رمزية وأسطورية تعيد خلق اللغة والوجود"(1).وهذا يعني أن فضاء اللحظة الجمالية رؤيوياً يتحقق من خلال فاعلية التعبير الجمالي عن اللحظة الجمالية بأعلى قيمها التأثيرية على فضاء الرؤية الشعرية وتحميلها جمالياً،
وتتأكد شعرية فضاء اللحظة الجمالية ( رؤيوياً) من خلال الأفق الجمالي الرؤيوي المفتوح في التعبير عن الحالة الشعرية بكل حراكها الجمالي وتدفقها الشعوري، ومن هنا، فإن غنى التجارب الشعرية من غنى طاقاتها الإبداعية الخلاقة التي تنتجها على المستوى الإبداعي.
والتساؤل المهم على خارطة التداول النقدي الجمالي: كيف وظف حميد سعيد فضاء اللحظة الجمالية( رؤيويا)؟و كيف حرك المشاهد الشعرية من خلال ترسيم اللحظة الجمالية( رؤيويا)،وكيف خلق المتغير الجمالي الشاعري في سيرورة هذه القصائد ومتحولاتها الجمالية؟
الواقع أن شعرية اللحظة الجمالية – في قصائد( ما تأخر من القول)- تتأسس على مثيرات المشاهد الزمكانية المتحولة بإيقاعاتها النصية المفتوحة، وخصوبة ما تشي به من مؤشرات تنبني على حيوية المشاهد بفضاء لحظتها الراهنة واستعادة ما كان، كما في قوله:
" عبرِ نافذةِ الفندقِ المُطلَّ.. على!
لم يرَ البحرَ..
لاسفنُ الصيدِ كانتْ هناك..
ولا رسمَ الفجرُ ظلاً على الماء
أين هو الماءُ، كان الفضاءْ
عتمة ً وهباءْ...
. . . . . .
. . . . . .
وكلُّ الذي كانَ في هذه البلاد..
طواهُ الغيابْ
وتعثرتِ الخطواتُ بشوكِ الخطايا
فكان اليبابْ.."(4).
إن النص الشعري هنا- نص يفيض برؤاه الزمكانية التي تنفتح على اللحظة الغائبة محاولاً استرجاعها بدافع الإحساس الاغترابي الواقعي الذي يجعل الحدث الشعري حدثاً زمكانياً مفتوحاً بالرؤى والدلالات النصية المنفتحة على ماكان من ذكريات، وكأن اللحظة الحاضرة لحظة اغترابية تجتر الخيبة والوحشة والغياب:[ لاسفنُ الصيدِ كانتْ هناك../ولا رسمَ الفجرُ ظلاً على الماء/أين هو الماءُ، كان الفضاءْ
عتمة ً وهباءْ]،أي إن اللحظة الحاضرة لحظة عقم وغياب وتلاشٍ وضياع،وهذا دليل سكونية اللحظة وعبثية محتواها الذي ينم عن عجز وعتمة وتلاش وغياب، وهذا ما عبر عنه بوضوح :[ وكلُّ الذي كانَ في هذه البلاد../طواهُ الغيابْ/وتعثرتِ الخطواتُ بشوكِ الخطايا/فكان اليبابْ...]،إن القارئ لهذا النسق الشعري يدرك أن الحيز الدالي والمدلولي يصب في خانة الاغتراب والعقم والتصحر الوجودي، عبر مؤشرات الدوال التالية:[ اليباب = الغياب= شوك الخطايا]؛ وهذا يعني أن فضاء اللحظة الشعرية الحاضرة فضاء يائس منكسر عقيم إزاء لحظات الانتشاء الزمكانية الماضية ، وهذا ما يجعل المشهدية الشعرية تسبح في فضاء العالم الماضوي المنتشي بلحظات الإشراق والحيوية والذكرى المنعشة للقلب والروح.
والسؤال الذي نطرحه الآن:
كيف وظف حميد سعيد فضاء اللحظة الجمالية رؤيوياً من خلال المشاهد واللقطات والعلامات البصرية رؤيوياً؟ كيف صنع الدراما المشهدية بطزاجة حركية وإدراك جمالي للعلاقات والروابط والبنى الدالة؟ هل كان يعي أن الاغتراب الزمكاني اغتراب روحي ومشهدي في آن؟
إن الاغتراب في قصائد( ما تأخر من القول) يستثير اللحظة الشعرية وفضاء متغيرها الجمالي عبر حراك المشاهد والصور واللقطات المنكسرة العقيمة أو اليائسة لاسترجاع أزمنة ماعادت تعود، وكل ما تحمله هي عبق الذكريات التي تختمر في الذاكرة لتعود إلى الحياة من جديد بإيقاع الحنين واللهفة إلى ما كان ، كما في قوله:
" لم يعد للعجوز اليساري ما يتذكره
وتمرُّ به امرأةٌ
رافقته إلى لحظة المستحيلْ
أتعرفني؟!
ويواصلُ ما قاله لحفيدتهِ
وهي مشغولة عنه...
ساهمة ً... حيث تلعبُ قطتها"(5).
إن فضاء اللحظة الشعرية فضاء تأملي استغراقي في قص ماكان إلى حفيدته التي لا تأبه بقوله، وكأن قوله ارتداد الذات للذات لتحاكي روحه الحالمة فيما مضى،إذ تنشغل حفيدته عما يقول بقطتها التي تمثل لها الحياة والله واللعب لتكون الدراما المشهدية بين الشيخ الحالم الذي يسترجع ما كان من خلال استحضار القول والذكرى، في حين أن الطفلة تعيش واقعها الحياتي المتحرك بالانتشاء والمتعة والحياة، ليجتمع الضدان كرمزين دالين( رمز الشيخ ) الذي يشير إلى ماضٍِ متلاشٍ ماعاد يملك حياله إلا رماد الحنين والأشواق، ورمز ( الطفلة) التي تشير إلى واقع حياتي مليء بالحياة وطزاجة الحركة الحياتية المخصبة، وشتان ما بين يباب الشيخوخة وحيوية الطفولة وينابيعها العذبة، وما انشغال الطفلة إلا انشغال الحياة التي تعج بالنشاط والحيوية والجمال، مقابل الشيخوخة التي تعيد القول والذكرى وتكرر ما كان دون أن تملك أية قوة لاسترجاع الحياة المخصبة التي انطفأت بالغياب واليباب.
وهكذا يدخلنا الشاعر حميد سعيد عالمه الوجودي من محراب المشاهد الاغترابية الزمكانية اليائسة ليضعنا في قصائد ما يسمى قصائد المرحلة( مرحلة السبعينات)، من خلال عنوانه الموسوم ب( ما تأخر من القول)، وكأن قول الشاعر جاء متأخرا في زمن متأخر، ليحكي عالمه الاغترابي وفضاء اللحظة الشعرية الغائبة التي تجول فيما مضى لتحكي عالمه الواقعي الراهن بكل شفافية وشاعرية لاهبة بالذكرى والحنين إلى استرجاع ما مضى.
وقد لايستغرب القارئ هذه النشوة الجماليةفي التحفيز النصي الجمالي عبر المشاهد وتصويرها المثير، وكأن المتحول الشعري الذي يبثه الشاعر يتحرك في اتجاهات جمالية منفتحة على فضاء اللحظة التأملية بكل حراك الرؤى والعلامات البصرية وتراكمها الدالي للكشف عما خلفها من رؤى ودلالات مبئرة للمشاهد والحدث الشعري، كما في قوله:
أستأتي المواسمُ بعد الأوان؟
يسبقها النحلُ
تبدو الحكاياتُ مبتدأً للحكاياتِ
ماكان منها..
وما سيكونْ
وأبقى على موعدٍ..
كلما زارني الشجرُ البابليُّ
مع اللحظةِ العاصفة.."(6).
إن فضاء اللحظة الشعرية جمالياً يتمثل في الرمز والرمزية وما يجعله الشاعر عنصراً مضاداً للعقم والتصحر واليباب الوجودي، ففي قول الشاعر:[ كلما زارني الشجر البابلي مع اللحظة العاصفة]؛ يجعل الشجر البابلي رمز اً للصمود والجمال والتشبث بالذكرى الحية لتحرك الوجود من حوله؛ وكأن عبق الذكرى يكسر ليالي اغترابه وحزنه ويأسه الوجودي؛وهكذا يعزف الشاعر سمفونية اغترابه على إيقاع المشاهد الشعرية المتحركة التي تتلاعب بالقارئ عبر الرموز الزمكانية المتحركة زمانا ومكاناً لتغدو قصائده غابة من الرؤى والدلالات والمعاني العميقة التي تسبح في تصوفها واغترابها الوجودي الزمكاني المثير..
2- فضاء اللحظة الشعرية الجمالية بصرياً:
لاشك في أن لعبة الحداثة الشعرية اليوم لعبة مثيرات تشكيلية تعتمد – بالدرجة الأولى فاعلية الانتقال من قيمة جمالية إلى أخرى، ومن مثير بصري إلى آخر، حسب مؤثرات الرؤية الفنية أو الشعرية بصرياً،" ولذلك" استخدم الشاعر العربي الحديث تشكيلات لغوية تعتمد على الرؤية البصرية؛ فالعين أقدر على إدراك المكان، والمكان أوضح للذهن من الزمان الذي يتعاقب ،وتمر لحظاته. ومن هنا يتمكن القارئ من ملاحظة دقائق الكتابة وتفصيلاتها التي قد تتجاوز كاتبها؛ إذ يمكن للكتابة أن تقول ما لم يقله الشاعر، وقد تضيف أشياء لم يعلنها الشاعر أو أخفاها أو علن عكسها، والكتابة وحدها هي التي تكشفها"(7).
ومن هنا ،فإن تمثيل اللحظة الشعرية الجمالية بصرياً يعتمد على فاعلية العلامات البصرية في تحريك الرؤى وإثارة المشاهد الشعرية بمحمولاتها الجمالية ومتحولاتها النصية؛ومن هنا" أصبح ضرورياً على أي متلقٍ للنص الشعري الحديث أن ينظر في أمر الكتابة، وطريقة رص المفردات وتشكيل الكلام على الصفحة الشعرية، وذلك بعد أن اعتمد الشاعر الحديث على كثير من الخصائص الكتابية في إنتاج النص الشعري الحديث؛ وهذا ما لم يكن معروفاً لدى الشاعر القديم الذي لم يهتم بالخصائص الكتابية بقدر اهتمامه بالخصائص الشفاهية؛ فكان يعنى بالفصل والوصل، والتقديم، والحذف والتكرار لإحداث الأثر الصوتي من خلال الإلقاء الشعري. ومع ظهور شعر التفعيلة وتراجع دور الإنشاد والسماع فيه صارت الحاجة ماسة إلى التعويل على الخصائص الكتابية المتمثلة في تشكيل المفردات والجمل الشعرية على الصفحة تشكيلاً خاصاً يعتمد على علامات الترقيم في تحديد نقاط الوقف والحركة في الجملة الشعرية، وعلى هذا الأساس تعد علامات الترقيم من الخصائص الكتابية المهمة في تحديد مفاصل النص الشعري الحديث والكشف عن أسراره الإيقاعية"(8).
وتعد مؤشرات اللحظة الشعرية الجمالية بصرياً من مثيرات الدراما الشعرية المتحولة التي تنبني عليها قصائد (ما تأخر من القول ) لحميد سعيد؛ فهو ينوع في فضاء المتغيرات الجمالية التي تثيرها قصائده على مستوى العلامات البصرية ومحفزاتها النصية،إذ تأتي علامات الترقيم بوصفها فواعل جمالية محركة للشعرية في أرقى تجلياتها الفنية،وتنوع استراتيجيتها الدلالية ، كما في قوله:
لم يعد للعجوز اليساري ما يتذكره
وتمر به امرأةٌ..
رافقته إلى لحظة المستحيلْ
أتعرفني؟!
ويواصلُ مما قاله لحفيدته..
وهي مشغولةٌ عنه...
ساهمةٌ .. حيثُ تلعبُ قطتها"(9).
إن فضاءاللحظة الشعرية فضاء رؤيوي مفتوح على تاريخ حافل من الذكريات، أي إن فضاء اللحظة الشعرية فضاء اغترابي يشير إلى عالم الشاعر الذي يستعيد ذكرياته الماضية وما تكرار هذه الذكريات في مخيلته إلا ليعيد ذكرياته بين الحين والآخر ليحيي إيقاع أزمنة قديمة منعشة لروحه ..فيما لاجدوى من هذه الذكريات في ظل تغير الظروف والرؤى والمؤثرات،وما قول الشاعر:[ ساهمة ... حيث تلعب قطتها ] إلا دلالة على اللاجدوى من هذه الذكريات في ظل ظروف واهتمامات جديدة لاتنتمي إلى ما كان من صلة.. وهنا جاءت الفراغات وعلامات الترقيم بوصفها أيقونات بصرية تبرز الحالة الاغترابية التي يعيشها الشاعر في واقعه اليومي.. وما الفراغ النقطي بعد قوله: [مشغولة عنه....]إلا دلالة على حالة التلهي والانشغال عما يقول، لخلق المتغير الأسلوبي البصري في الكشف عن المضمر النصي الذي يخلق اللحظة الجمالية ويثيرها في إيقاعها المشهدي التوصيفي الدقيق..
واللافت أن فضاء اللحظة الشعرية جمالياً يتأسس على التوصيف المشهدي الدقيق في رسم منعرجات اغترابه بإيقاع شاعري مشهدي بصري دقيق يرصد المشهد بإيقاع اللحظة التوصيفية المشهدية الدقيقة، كما في قوله:
"وتغيبُ طويلاً
ويبقى كما كان..
يجلسُ كلَّ صباحٍ
وتأتي .. لقد ثقلتْ
وهي تحملُ طفلاً تشير إليه
تقول له ولدي..
وتبيع له ما تشاء .. لا ما يشاء
... ...
... ...
كنت أبا طيبا
وكل الذي كان بيني وبينك
ياسيدي-
أننا فقراء"(10)..
إن فضاء اللحظة الشعرية فضاء رؤيوي مفتوح على رؤى ودلالات مفتوحة بمؤشراتها النصية وفواعل الحدث والمشهد الشعري، وقد جعل الفراغات النقطية ذات قيمة تحفيزية في خلق الممانعة الجمالية التي تبرز دينامية الأنساق الشعرية والتعبير عما كان من أزمنة ومشاهد ماضوية تركت أثرها في ذهنه، سواء بما تعكسه من مشاهد ورؤى ماضوية وما تعكسه من أحاديث وأقوال متخيلة في الواقع الراهن،وهذا دليل أن غنى فضاء اللحظة الشعرية جمالياً يتأتى ن بلاغة ملصقات اللحظة الشعرية من رؤى ودلالات معبرة عن الواقع بكل مقتضياته ورؤاه النصية.
وهكذا يمكن القول :إن بلاغة اللحظة الشعرية بصرياً أو مشهدياً تتأتى من حراك الرؤى الشعرية وملصقاتها النصية التي تعكس براعة الشاعر في الانتقال من قيمة بصرية تشكيلية إلى أخرى ، محققاً قيمة جمالية في الاستثارة والخلق الجمالي.عبر الارتداد من مشهد بصري إلى آخر، ومن لقطة مشهدية وحراكها البصري إلى لقطة أخرى، عبر العلامات البصرية التي تفعِّل الحدث والموقف الشعري في آن..
نتائج أخيرة:
1-إن فضاء اللحظة الشعرية – في قصائد( ما تأخر من القول)- يعكس مهارة الشاعر في الانتقال من مثير بصري اغترابي إلى آخر، ومن مشهد تذكري يرصد ما مضى إلى مشهد آخر، وهذا دليل أن غنى الشعرية في قصائده يتجلى في تنوع المثيرات البصرية وتنوع الرؤى والدلالات الاغترابية الرتبطة بها..
2-إن فضاء اللحظة الشعرية فضاء رؤيوي استثاري بليغ المؤشرات والرؤى النصية، فأي ارتقاء في مثير بصري مشهدي أو وصفي يعود إلى حنكة الشاعر في ربط الأحداث والرؤى والمواقف الشعرية الاغترابية في رصد مرحلة الشيخوخة بإيقاع وصفي مشهدي دقيق يظهر حنكة الشاعر ومهارته الأسلوبية في الوقوف على المشاهد المؤثرة التي تختصر الكثير من القول بالقليل من اللفظ، وهذا دليل مهارة الشاعر الوصفية السردية وبلاغة المؤشرات المرتبطة بها..
3-إن بلاغة المشاهد والرؤى والمواقف والأحداث الشعرية – في قصائد( ما تأخر من القول ) يعود إلى مهارة الشاعر وحنكته الوصفية وغنى المؤشرات النصية التي تربط الأحداث والرؤى والمواقف الشعرية لتبرز بإيقاعاتها ورؤاها النصية الحافلة بالمتغيرات النصية وفواعل الرؤى والبنى الدالة,
الحواشي:
(1)شرتح، عصام،2021- المكون الجمالي في قصائد وهيب عجمي، دار العتيق، دمشق،ط1، اص59.
(2) عوض، ريتا،1979-أدبنا الحديث بين الرؤيا والتعبير، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ،ط1، صفحة الغلاف.
(3) فيدوح، عبد القادر،2016-أيقونة الحرف، وتأويل العبارة الصوفية، في شعر أديب كمال الدين، منشورات صفات،ط1، بيروت، ص39.
(4) سعيد،حميد،2020- ما تأخر من القول، دار دجلة، ص34-35.
(5)المصدر نفسه، ص44.
(6) المصدر نفسه، ص56.
(7)ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، أطروحة دكتوراه ،مخطوطة جامعة حلب ،ص203.
(8) المرجع نفسه، ص203.
(9) سعيد،حميد،2020-ما تأخر من القول،ص44.
(10) المصدر نفسه،ص48.