بقلم: سندس احمد النداوي
[size=32]موقف الحافلات الأخير[/size]
تنهدت بصمت وهي تصغي الى الجدال والصوت العالي بين اشقائها حول مغادرة محافظة "بغداد" العاصمة والذهاب الى مدينة "رأوه" تلك التي فارقوها منذ زمان بعيد، وقع الخبر عليها مثل الصاعقة فهي لا تريد الذهاب، ولم يتبقى لها أحد بعد وفاة أمها فالكل يرغب بالذهاب خشية الاقتتال الطائفي والتهجير، إذ كان حينها فصلا مؤلما تمر به بغداد، وألم يعتصر الجميع من فراق الأحبة وترك المنازل إلى المجهول.
تاهت بها الأفكار بين وظيفتها ومدرستها القريبة وبين قلق العيش، وخوفها على اخوتها من التعرض لنفس مصير اقرانهم، فتنة غزت بلادي وحرقت الأخضر واليابس، ولكنها لا تريد ان تصدق.
ولدت وعاشت في بغداد، ووسط هذا وبين الخوف والحيرة تقدم رجلا لخطبتها من خارج البلاد ر رجل كبير بحاجه الى امرأة تهتم به وتلبي طلباته، عبد القادر احمد يكبرها سناَ ويعاني المرض، ويبدو انه قد غادر العراق منذ زمن طويل ولديه من المال ما يكفيه لتعيش عيشة كريمة راضية بما قسمه الله لها.
تداول أهلها مع الوسيط الذي تقدم لخطبة إكرام اختهم التي لم يسبق لها الزواج وان كانت قد بلغت الأربعين، وبان على وجوههم الرفض وقالوا: نحن لا نرضى الغربة لابنتنا من رجلا لا نعرفه ويكبرها بعشرين عام وأكثر.
سمعت إكرام بالخبر... فاذا بها تجده المنقذ لها مما هي فيه من الحيرة، والخلاص من العيش مع زوجة اخيها والذهاب بعيدا عن المشاكل، وهي التي لم تغادر العراق يوما، قرار صعب بلحظات صمت، وسافرت الى تركيا والتقت به، عبد القادر ممنوع من دخول الحدود.
وجدت جليلة الزوج الطيب والكريم الذي لم يكن يبخل عليها بشيء، وكانت له الزوجة المطيعة الذكية التي استطاعت ان تجعله يحبها ليعوضه الله على ما فاته من زوجته الأجنبية السابقة التي توفيت وتركت له ثلاث أولاد وبنت يكبرون إكرام بالسن وكانوا يعيشون بعيدا عنه في بلاد الأم بعد ان اخذتهم صغار وتركت ابوهم، كانت تحاول أكرام الحفاظ على علاقة طيبة معهم ولم تتمكن فهم يعيشون عالم اخر لا يدرك عقوق الوالدين.
مرت الأعوام والحاجة إكرام الزوجة المحبة العطوف التي تخدم زوجها المريض بكل حب وكرم، وهم ينتقلون بين تركيا وعمان للعلاج، بعد أن أكرمهم الله بحج بيت الله الحرام وكانت الدعوة هدية من الله على صبرها وتقواها واخلاصها لزوجها المحب الذي كان يخاف عليها من الخروج حين يكونون في تركيا، ويطمأن عليها وهم بين اصحابهم في عمان لغاية يوماً اشتد عليه المرض، وطلبت من أهلها القدوم اليها، ومن اجل الذهاب اليها كان لابد لهم من تأشيرة دخول، وحين طلبوا التأشيرة لم يتم الموافقة عليها، مصيبة من مصائب العرب حدود تتلوها حدود بعيدا عن الرحمة ومتطلبات الوجود الإنساني.
عانت الحاجة كثيرا ومعها الخادمة التي لم تكن عربية، ولا تفهم غير كلمات قليلة ولكنها تقوم بواجباتها على أكمل وجه وتساعد الحاجة في كل صغيرة وكبيرة، وتستقبل الضيوف وتقدم لهم القهوة، وابتسامتها أجمل ما فيها.
وبعد معاناة مع المرض توفي الحاج عبد الحميد صاحب السمعة الطيبة والقلب الكبير وكان لعبد الحميد أربعة أولاد من زوجته الأجنبية واختار أولادها العيش معها بعيدا عن الأب بكل شيء، وكم تمنت إكرام ان يأتوا لزيارته قبل وفاته، ولكن لم يصغي اليها أحد، ورحل دون ان يراهم.
مرت الأيام واستطاعت الحاجة بصبرها وايمانها ان تجمع مؤلفات الحاج وما يمتلكه من كتب وقامت بالتبرع بها بالإضافة إلى بعض المقتنيات الشخصية التي كان يمتلكها، ولسوء الحظ قامت الخادمة برمي أوراق ومستندات كانت محفوظة في حقيبة قديمة دون علمها بما فيها، وبين الحزن الذي ينتابها وبين شوقها لمن تبقى من أهلها قررت إكرام العودة إلى العراق بكل ما تحمل معاني الوحدة من تشظي وتشتت.
نزلت عند بيت اختها في بغداد بين المحبة والترحاب تجدد لها الأمل بأيام قادمة لعلها تكون أجمل، وبين انتقالها ما بين اخوتها وجدت في نفسها إحساس الرغبة في البقاء بين الأهل، شعور جميل راودها رغم قساوة الحياة وضيق العيش تسكن روحها الرغبة في البقاء ولكن اين؟؟؟
أتيحت للحاجة إكرام الذهاب للعمرة في شهر رمضان برفقة اختها وزوجها وقضاء إجازة العيد هناك فرصة جميلة للقرب من الله وايام صوم وعبادة في رحاب بيت الله الحرام والصلاة في المسجد النبوي الشريف.
وحين عودتها ارادت ان يكون لها بيتها المستقل حتى لا تكون عبأ على أحد وعزمت على شراء قطعة ارض صغيرة بحدود امكانياتها المادية وانشغلت في تجديد بطاقتها المدنية وجواز سفرها ... ووو...وبعد انهاء معاملاتها قررت العودة الى بيتها في إسطنبول.
وودعت الحاجة إكرام أهلها، وحجزت للذهاب على باصات النقل البري، ولم يتمكن أحد من الذهاب معها فمنهم المشغول بالدراسة ومنهم المرتبط بعمل، وكان عليها الذهاب بمفردها، والرحلة تستغرق اقل من يومين في الباص، ورغم طول المدة اعتاد الناس عليها لرخص ثمنها، وللاستمتاع بالمناظر الجميلة، والطبيعة الخلابة على طول الطريق.
انهمرت الذكريات عليها وتصارعت الإحداث في مخيلتها ولم يغمض لها جفن منذ أن غادرت بيت اختها، شعرت إكرام بضيق في صدرها بعد عبور نصف المسافة تقريبا، وكانت على اتصال هاتفي مع اختها بين الحين والأخر على طول الطريق وابلغتها ان السائق لم يقف منذ ساعات وهو يواصل السير على الطريق، فردت عليها اختها هل تشعرين بضيق او تعب؟ فقالت لها لا لكنه لم يقف مثل المعتاد، وأغلقت الجوال وازداد الضغط النفسي عليها وبدأ يحتبس القلق في نفسها، وتسارعت نبضات قلبها، واثناء ذلك توقف سائق الحافلة عند مكان الوقوف ليرتاح الجميع، ومن يريد التبضع او الذهاب للحمام، ونزلت إكرام لتلتقط أنفاسها، ولكن دون جدوى، شعر كل من في الباص بحالها واستغربوا فهي لم تكن تعاني من أي شيء، والكل يسأل ماذا حصل لها وكيف سنتركها هنا، ونواصل الطريق، وتعاطف المسافرين معها، ونقلوها الى المشفى وبعد ساعتين توفيت تاركة ورائها اجمل الكلمات واحلى الأماني واليقين بقربها من الله... رحلت لمكان لا خوف فيه من الوحدة ومن الناس رحلت بجمال الروح، والعطاء المجرد الذي لا يفنى.