الزمن هو سبعينات القرن الماضي ، حيث ظواهر التمدن تجلت وفرضت نفسها على أغلب مرافق الحياة في العراق عامة والموصل بشكل خاص. وعلى الرغم من ذلك فإنه بقيت شريحة من المجتمع تعيش متخلفة عن الركب ، تعيش حياة الأجداد المتمثل بالبداوة والبساطة ، مع الاعتزاز بالأخلاق العربية الأصيلة كالكرم والأمانة وصفاء النية وحب الخير والعمـل به . ( خليف) هو واحد من تلك الشريحة الطيبة ، كان يعيش حياة البداوة في ضاحية من ضواحي مدينة الحضر التاريخية بخيمتين إحداها دار سكناه وعائلته والأخرى مأوى أغنامه ، وبحمد الله كان صحيح البدن مفتول العضلات سعيداً بحياته، ينتقل بخيامه وأغنامه من مكان لآخر بحثاُ عن الكلأ لرعي أغنامه ، يبيع لبنها وصوفها ، ويحتفظ عند ولادتها بالإناث ويربي الذكور من الخرفان لبعض الوقت حتى يحين الوقت المناسب فيبيعها ، وبذلك يحصل على دخل مناسب يعينه على تلبية حاجات العائلة والعيش المعتدل الكريم . مضت السنين والكل في معية خليف ماضون في سعادة وحياة سلسة ، حتى كان ذلك اليوم المشؤوم من أيام بدايات الربيع حيث عصفت الريح وتلبدت السماء بالغيوم السوداء وانهمر المطر قرباً قربا ، لم تصمد الخيام غير ساعات أمام تلك الرياح العاتية ، انقلعت الأوتاد وانقطعت الحبال فهوت الواحدة تلو الأخرى ، وأصبح الجميع بلا مأوى وباتوا ليلتهم في العراء ماء المطر من فوقهم والسيول الجارفة المحملة بالطين اللازب من تحتهم . ومع انقضاء الليل وشروق الشمس كانت العاصفة قد ولت وانقطع المطر وضحك النهار ، عندها قام وبمعونة الزوجة والأولاد بإعادة نصب الخيام ونشر الملابس والفرش المبللة ، وبعد أيام قليلة عادت الخيمة ومحتوياتها كما كانت . إلا أن خليف لم يعد كما كان ، حيث شعر بقشعريرة وحمى مع آلام في المفاصل وقلة في الشهية ، ولم يعد له عزم للقيام بواجباته اليومية . افتقده جاره فسأل عنه وزاره ، ونصحه بمراجعة طبيبه الدكتور ( ع ) في الموصل . وفي فجر اليوم التالي خرج برفقة جاره ، وبعد مسير على الأقدام لمسافة نصف ساعة وصلوا الشارع العام . مرت السيارات الواحدة تلو الأخرى وهم يلوحون ، إلا أن أحدا من سائقيها لم يتوقف ، وبعد ساعتين أو أكثر توقفت إحداها وقبل سائقها أن يوصلهم إلى الموصل . وبعد وصولهم شارع نينوى وقرب عيادة الدكتور (ع) طلبوا من السائق الترجل . كان الوقت مبكراً ، إلا أن الطبيب المقصود كان من الأطباء الذين يفتحون العيادة قبل الآخرين لأن أغلب مراجعيه من خارج الموصل من الذين يأتون مبكرين ليعودوا إلى قراهم مبكرين . ولدى وصولهم وجدوا باب العيادة مفتوحاً والطبيب حاضراً . استقبلهم بالترحيب ، حيث أن جار خليف كان من زبائنه المعروفين ، وبعد أن استمع الطبيب لقصته وإجاباته على أسئلته قام لفحصه ، إلا أنه قبل أن يبدأ سأله هل أنت لابس سروال بغية تغطيته بالغطاء الأبيض المعد إن كان بلا سروال ؟ قال لا والتفت إلى صاحبه ومن دون إحراج أو خجل طلب إعارته سرواله ، لبس السروال المعار وارتقى على المنضدة ، جس الطبيب نبضه وأصغى إلى قلبه ورئتيه ، ونقر على صدره وظهره ، وجعله يقف ويجلس ويستلقي ، وأخيرا أومأ برأسه أن انزل ، نزل وأعاد السروال لصاحبه وكأن ذلك أمراً اعتيادياً لا غبار عليه في عرفه وعرف صاحبه . ذكر له الطبيب تشخيص مرضه وكتب له الوصفة وشرح له ما يستوجب أن يحتاط منه ، دفع أجرة الطبيب وخرجوا مودعين بمثل ما استقبلوا به من الترحاب . مرت الأيام سراعاً ، ونسي الطبيب قصة استعارة السروال ، وبعد أشهر إذا بخليف يدخل غرفة الطبيب ، وكالعادة استقبله بما يستحقه من الحفاوة ، سأله عن صحته وأحواله ، حمد الله أنه بخير وعافية ولا يشكو من مرض ، وأنه جاء للتحية والسلام عليه ، وأخرج من تحت عباءته عقدة نشرها بكل اعتزاز ، دكتور هذا سروال جديد اشتريته الآن ، جلبته لتضعه عندك احتياطا ووقفاً على أرواح أمواتك ليستعمله كل من ليس لديه سروال من مراجعيك حين فحصه .وبعد أن قهقه الطبيب بصوت عال قال له ، خذ سروالك أخي فإن أمواتي في قبورهم ليسوا بحاجة إلى أجر سروال ، ورجائي منك أن تلبسه وأن لا تأتيني مرة أخرى من غير سروال.
لطفي الياسيني عضو متألق
عدد المساهمات : 2120 تاريخ التسجيل : 13/05/2021
موضوع: رد: قصة قصيرة - السروال : د.محمود الحاج قاسم الثلاثاء مارس 28, 2023 12:22 am
اقف اجلالا لعبق حروفك وابحارك في مكنونات الذات الانسانية فاجدني عاجزا عن الرد حيث تسمرت الحروف على الشفاه جزيل شكري وتقديري لما سطرت يداك المباركتان من حروف ذهبية دمت بخير