هل كان مارتن لوثر نبيًا أم متمردًا؟
[size=32]قسمت الكنيسة إثر دعوات لوثر الإصلاحية كنيستين: كاثوليكية وبروتستانتية[/size]
تحول مارتن لوثر من مجرد مؤلف مغمور، لا يعرف اسمه أحد، إلى ذلك الثائر الذي تضجّ المنابر الأوروبية بدعواته الإصلاحية الدينية. هذه الدعوات التي قسمت الكنيسة بين بروتستانتية وكاثوليكية. في هذا الكتاب رواية لهذا التحول.
مارتن لوثر مؤسس النظام الإنجيلي الجديد في الكنيسة
ابتسام الحلبي/إيلاف: قبل 500 سنة، دعا أكاديمي ألماني غامض إلى نقاش لاهوتي. ظاهريًا، كان الأمر مجرد ممارسة روتينية في العالم الجامعي ووسيلة لتدريب الطلاب. صحيح أن الأستاذ اختار موضوعًا حساسًا: بيع صكوك الغفران، وهي وسيلة شعبية تخوّل المسيحيين المتدينين تقديم مساهمة مالية إلى الكنيسة في مقابل الأمل بمغفرة خطاياهم في الآخرة، لكنه لم يكن أول من انتقد صكوك الغفران، وهو فعل ذلك من دون أمل كبير في أن يستجيب اللاهوتيون لندائه لمناقشة هذه المسألة؛ في الواقع لم يحدث النقاش قط.
في عام 1517، كان مارتن لوثر أكاديميًا غير معروف يبحث عن قضيّة. وبعد بضع سنوات فقط، أصبح أكثر مؤلف نُشرت أعماله في تاريخ المسيحية. وبوفاته في عام 1546، انقسمت الكنيسة إلى بروتستانتية وكاثوليكية، مع عواقب ما زلنا نعيشها إلى اليوم.
مجادل قوي
كثير مما يقال عن مهنة لوثر غير مرجّح. ومن الصعب أن نرى كيف، في عالم من دون وسائل التواصل الحديثة، سمع الكثيرون عن لوثر وشكوكه. لم يكن مؤلفًا معروفًا أو مقدّرًا، ولم ينشر أي شيء تقريبًا، وكان يدرس في جامعة غير مميزة تقع في مكان بعيد في شمال شرق ألمانيا. قضاياه الـ 95 حملت غضبًا مستكينًا، وربما أثارت احتجاجًا كبيرًا في الأوساط الأكاديمية الأكثر تطورًا، لكنّها كانت مكتوبة باللاتينية، أي لغة النقاش العلمي.
بالتأكيد لم يتوقع أحد أن يتحول هذا الكاتب المبتدئ إلى مجادل قوي. في عام 1518، ردّ على منتقديه بالألمانية، وليس باللاتينية. وكانت "الخطبة في الغفران والرحمة" أولى مؤلفاته في سلسلة من الكتيبات، التي أثارت اهتمام جمهور واسع، ثم شكلت حركة شعبية عارمة.
في وقت لاحق، غالبًا ما استذكر لوثر الماضي، ونظر إلى الحوادث الاستثنائية التي أعقبت صحوة ضميره المتهورة: محاولة الهرمية الكنيسة إيقاف احتجاجه، أعماله الجامحة التصعيدية، إدانته وعزله كنسيًا، الغضب الشعبي الذي حدث بعد ذلك.
نحن نعرف هذا لأن لوثر لم يكن رجلًا يعتمد السرية. كان يعبّر بسعادة عن رأيه على طاولة العشاء، ويمازح رفاقه، وهو سجل محادثات بعضهم، وجُمعت في مجلّد "محادثات الطاولة". هذه الذكريات غير الحذرة غالبًا في وقت العشاء، إضافة إلى مراسلاته، تشكل جوهر ما نعرفه عن شخصية لوثر الهائلة.
المسيء اللطيف
من المحتم أن الذكرى السنوية للإصلاح ستؤدّي إلى فيض من المنشورات الجديدة. "مارتن لوثر: المتمرد والنبي" MARTIN LUTHER - Renegade and Prophet للكاتبة ليندال روبر (كتاب مصوّر؛ 540 صفحة؛ راندوم هاوس؛ 40 دولارًا ) هو بلا شك من أفضل هذه المنشورات وأكثرها جوهرية. بعد إجراء بحوث معمّقة على مدى أكثر من 10 أعوام، تقدم هذه السيرة دراسة جديدة ومنيرة عن الرجل الذي سبّب انقسام قارة.
قامت روبر على وجه الخصوص بتحليل المراسلات التي تضيء كل صفحة من هذا الكتاب، بينما كان لوثر يتعامل مع ضغوط تحوّله إلى شخصية عامة، ويبحث عن حلفاء، ويزيح الثقل عن ظهره، مفضيًا بهمومه لأصدقاء يثق بهم.
في الرسائل الصريحة بشكل مقلق، تشعّ جاذبيته، لكننا نرى أيضًا تعقيده: كان رجلا قادرًا على أن يكون مسيئًا وغير متسامح تارةً، ولطيفًا وحنونًا ومضحكًا طورًا.
برعت روبر في الكتابة عن نشأة لوثر غير العادية في عائلة تعمل في التعدين. كانت حياة صعبة، مليئة بالمخاطر. عاشوا بشكل جيد، غير أنّهم كانوا على مرمى حجر من الكارثة في حال اتّخذوا قرارًا سيئًا واحدًا في عملهم. عرف مارتن الشاب أن ثمن تعليمه كان استثمارًا في مستقبل العائلة، وعلم إلى أي مدى سيُفشل خطط والده إذا قّرر التخلي عن دراسة المحاماة ليعمل في الكنيسة. ولكن المشكلة حُلّت بينهما، وارتقى لوثر بشكل مطرد في صفوف النظام الأوغسطيني. ولم يلاق تعيينه كأستاذ في فيتنبرغ ترحيبًا في البداية، فقد شعر لوثر أنه قد تم نفيه إلى منطقة معزولة.
التحدي المهيب
رَوَت روبر الكثير عن هذه الحوادث، وعن محاولات لوثر الدفاع عن موقفه الأول. وهي ممتازة في الكتابة عن نقاشه النقدي مع خصومه الكاثوليك الناشئين في عام 1519، عندما انضمّ لوثر إلى مباراة لاهوتية، حيث نشأ تحدٍّ بينه وبين جوهان إيك في لايبزيغ. هناك، تمّ استدراجه ليبدو مخطئًا من قبل خصمه الواثق، الذي دفعه إلى مواقف أكثر تطرّفًا من أي وقت مضى: أوصل لوثر إلى درجة الاعتراف، على سبيل المثال، بأن العظيم البوهيمي العصري المهرطق يان هوس كان محقًّا في عدد من القضايا الرئيسة.
وبعد نقاش لايبزيغ جاء المجتمع الفكري، مرة أخيرة، لإنقاذ لوثر، من خلال الكشف عن أن إيك فاسق متعجرف. تخطّى لوثر الهزيمة في لايبزيغ بسرعة، وغذّى الجمهور المبهور بنصوص لاهوتية عميقة وصريحة وجريئة.
أي محاولات لكبح جماح لوثر خلال هذه السنوات واجهت تحديًا مهيبًا: كتب لوثر إلى أحد محاوريه "أتوسل إليك، إذا فهمت الإنجيل بحق، لا تظنّن أن الأمر يمكن أن يتم بدون ثورة وإثم وفتنة. لا يمكنك تحويل السيف إلى ريشة، أو تحويل الحرب إلى سلم: كلمة الله هي سيف". وهو لم ينحرف عن هذا المبدأ يومًا. وسرعان ما تمّ طرد الأصدقاء الذين أصيبوا بخيبة الأمل، وكذلك أولئك الذين هددوا مستقبل حركته الشبابية.
في العام 1524، انتشر التمرد عبر الريف الألماني، حيث حمل الفلاحون السلاح احتجاجًا على ظروفهم المعيشية القاسية. لم تكن هذه الثورات جديدة، لكنّ إدّعاءهم بأنها مستوحاة من تعليم لوثر للإنجيل، جعله ينكر المتمردين ويرفضهم بشدّة. وتتتبّع روبر جذور ما حدث في العام 1522 عندما رفض لوثر التغيير الإنجيلي، الذي قد يسيء إلى ناخب ساكسونيا، فريدريك الحكيم، حاميه الأساس: من هنا أصبحت الكنيسة اللوثرية تتعاون مع السلطة العلمانية.
كتاب ناقص
بهذه الطريقة، كان لوثر بمثابة عالم من الآفاق الضيقة، ونادرًا ما انتقل بعيدًا عن بلده الحبيب ساكسونيا في سنواته الأخيرة، متولّيًا إدارة عدد متزايد من الكنائس، التي استمدّت إلهامها من تعليمه، من طريق المراسلة وممثّليه، الذين سافروا في أرجاء ألمانيا لإقامة النظام الإنجيلي الجديد.
تتابع روبر تطور هذه الحركة عن كثب، ولا سيما من خلال عيون لوثر. كتبت: "أريد أن أفهم لوثر نفسه. أريد أن أقوم باستكشاف مناظره الداخلية من أجل فهم أفضل لأفكاره حول الجسد والروح، التي تشكلت قبل الفصل الحديث بين العقل والجسم".
لكن قرارها البقاء مع لوثر في فيتنبرغ يحرمنا من أي تفسير حقيقي للسبب الذي جعل الكثيرين خارج ساكسونيا يتبنّون قضيته: لماذا صعد الكهنة على منابرهم الخاصة، وخاطروا بسبل عيشهم للتبشير باسمه؛ لماذا تحرّك المواطنون العاديون للوعظ بالإنجيل؛ لماذا انسحر الأمراء بهذا الكاهن المتمرّد. حتى زوجة لوثر، كاتارينا فون بورا، التي تعتبر بطريقتها الخاصة أحد أكثر النماذج إشراقًا من ناحية تمكين المرأة، لا تظهر في الكتاب، وهذا يثير الفضول (راهبة سابقة، زواجها من لوثر الراهب السابق، كانت فضيحة في حد ذاتها).
هذا كتاب غني، ويولّد شعورًا بالرضا، ويقدم بعض الأفكار الذكية، لكنّ التركيز على حياة لوثر الداخلية يتركنا مع شعور غير مكتمل عن كيف تحوّل هذا الرجل إلى حركة.