الشاعر بـدر شـاكر السـيّاب ٦٠ عام على وفاته
[size=32] الشــاعر بــدر شــاكر الســيّاب ٦٠ على وفاته[/size]
كان السياب شاعرا كبيرا بكل معنى الكلمة، لقد ترك وراءه رغم انه مات في الثامنة والثلاثين من عمره ثروة من الشعر الغزير الخصب الذي جعل منه شاعرا من اعظم شعراء العربية. انه يفوق جميع الشعراء المعاصرين من ابناء جيله في تنوع انتاجه وغزارته وشموله لكثير من القضايا والتجارب الانسانية ، وكان من المع شعراء تلك الفترة واكثرهم شهرة ، فقد عاش فقيرا طيلة حياته ونكب بمحنة المرض وهو في قمة شبابه، وعرض نفسه على اكبر اطباء لندن وبغداد وبيروت والكويت، وظل منذ عام 1957 يتحمل آلاما جسدية قوية حطمت روحه وملأت شعره الاخير بعدد من قصائد الرثاء المر لنفسه. لقد كان مرضه عنيفا وقاتلا وكان هذا المرض كفيلا بأن يضاعف حساسيته وقلقه واضطرابه، وكان فقيرا يصارع امواج الحياة القاسية ومتاعبها الكثيرة بلا سلاح مناسب وهذا ايضا مما كان يضاعف حساسيته وقلقه واضطرابه.
لقد اقبل السياب على المذاهب السياسية فقرأ الماركسية وارتبط بالماركسيين عدة سنوات ، ثم انفصل عنهم انفصالا مدويا وارتبط بالاتجاهات السياسية التي تؤمن بالوحدة العربية والقومية العربية. وكتب سلسلة من المقالات في بداية الستينات من القرن الماضي بعنوان(كنت شيوعيا) نشرتها له جريدة( بغداد) لصاحبها خضر العباسي. الا انه لم يكن منتميا الى أي حزب من الاحزاب القومية. فكتب عددا من روائع قصائده عن الجزائر وفلسطين وبورسعيد.
ففي يوم 24 كانون الاول عام 1964 غيب الموت هذا الشاعر الكبير في احدى مستشفيات الكويت. مات غريبا عن قريته الصغيرة ( جيكور) بمدينة البصرة ، هذه القرية التي عشقها واحال كل ذرة من ترابها الى شعر رائع، وكان دائما يحملها في قلبه اينما ذهب ، ولا يجد للحياة معنى او للسعادة بعيدا عنها.
رحل بعد ان تألم كما لم يتألم أحد، لقد كان يعاني آلام المرض العنيف الذي سكن جسده ولم يبرحه ولكنه مع ذلك كان يحس بالامل وكان يحتمل في صبر كل جراحه وكان يقول في شاعرية جميلة اصيلة مخاطبا ربه،آملا في ان يعود من مستشفى لندن الى قريته ( جيكور) وقد تغلب على مرضه:
لانه منك حاو عندي المرض
حاشا، فلست على ما شئت اعترض
والمال؟ رزق سيأتي منك موفور
هيهات ان يذكر الموتى وقد نهضوا
من رقدة الموت كم مص الدماء بها دود
ومد بساط الثلج ديجور
اني سأشفى ، سأنسى كل ما جرحا قلبي
وعرى عظامي فهي راعشة والليل مقرور
وسوف أمشي الى جيكور ذات ضحى
ولكن لسؤ حظ السياب وحظ الثقافة العراقية خاصة والعربية عامة لم يحصل على الشفاء فمات بعد ان عانى كثيرا من الالام المرة وبذلك فقد العراق والامة العربية شاعرا كبيرا قدم لها الكثير وكان قادرا على ان يقدم المزيد من شعره الخصب لولا ارادة الله وذلك المرض الذي قضى عليه .
ففي قصيدة كتبها في اوائل عام 1963 أي قبل موته بعام تقريبا عنوانها( وصية من محتضر) يقول فيها:
انا قد اموت غدا فان الداء يقرض غير وان
حبلا يشد الى الحياة حطام جسم مثل دار
نخرت جوانبها الرياح وسقفها سيل القطار
لقد بدأ السياب حياته الشعرية عام 1948 وكانت مرحلته الشعرية الاولى ممثلة في ديوانين هما( أساطير) و( أزهار ذابلة) ففي هذه المرحلة من حياته الشعرية بدا السياب شاعرا رومانسيا غارقا في الرومانسية، كان يعيش في عالم خيالي مليء بالضباب ويعبر عن حزن عميق غامض ويقترب من عينيه ، وكان من الطبيعي ان يبدأ السياب هذه البداية الرومانسية الغامضة ، لانه لم يكن قد عرف طريقه بعد، ولان الشعر العربي في تلك المرحلة كانت تغلب عليه الروح الرومانسية الحزينة الغامضة. في تلك المرحلة كانت الرومانسية تقذف الحياة تلادبية بآخر موجاتها، لقد كان الشعراء الرومانسيون يشعرون بالاختناق ويرون العالم مظلما لا معنى له ويحسون ان في الحياة تعقيدا هائلا غير مفهوم، وقد انعكس هذا الموقف على نتاجات هذه المدرسة الرومانسية وعلى سلوك بعض الشعراء ايضا. ومن هنا نرى تلك الروح الرومانسية في شعر السياب بكل ما في هذه الروح من خيالات واوهام وهروب من الواقع وذلك حينما نقرأ له هذه الابيات من قصيدة له بعنوان( اقداح واحلام) التي كتبها عام 1946 أي في مرحلته الرومانسية الاولى والتي يقول فيها:
انا ما ازال وفي يدي قدحي
ياليل أين تفرق الشرب؟
ما زلت أشربها وأشربها
حتى ترنح افقك الرحب
الشرق عفر بالضباب فما
يبدو فأين سناك يا غرب
ما للنجوم، غرقن من سأم
في ضوئهن ، وكادت الشهب
أنا ما أزال وفي يدي قدحي
ياليل أين تفرق الشرب؟
كان الوطن العربي يعوم في بحر من اليأس ، وكانت قمة هذا اليأس تتمثل في مأساة فلسطين عام 1948 التي عاشها السياب في بداية حياته حيث كان غارقا في الاحزان والخيالات الرومانسية الغامضة اليائسة وحيث كان يكتب بالروح نفسها التي عاشها العرب فاتاحت للشاعر فرصة ذهبية لكي يكسر قيود الرومانسية وينطلق الى عالم آخر تتألق فيه عبقريته دون تقليد للاخرين، ففي العراق كان الشعب يقاوم معاهدة صالح جبر مع الانكليز واسقطها . فاشترك الشاعر السياب الذي ما زال شابا في المقاومة والمظاهرات والمؤتمرات الشعبية وكتب القصائد ضد تلك المعاهدة. ومنذ تلك الفترة بدا وعي الشاعر السياب يتفتح على شيء جديد في داخله. وبدأ ينفصل تدريجيا عن الرومانسية ويزداد احساسا بالمأساة خاصة وانه يحمل في وجدانه وعقله صورا مؤلمة لهذه المأساة عن قريته( جيكور) بالبصرة. وهنا اتيح له ان يصبح واحدا من اعظم رواد الشعر العربي الحديث ، وواحدا من اعظم الشعراء العرب .
لقد ساعد السياب على الوصول الى هذا المسار من النضج الشعري حساسيته الشديدة فهو شديد التأثر بقراءاته وتجاربه في الحياة . فقد قرأ الكثير في الادب العالمي والثقافة العالمية، كما انه قرأ لكبار الشعراء المعاصرين قراءة جيدة اصيلة عن طريق اللغة الانكليزية التي كان يجيدها اجادة تامة. فقد قرأ لاليوت ولوركا واديث سيتويل وأودن وغيرهم من الشعراء المعروفين. كما انه درس دراسة عميقة للكتب الدينية واستفاد من القصص الدينية ويندر ان تخلو قصيدة له من الاستعانة بهذه القصص في بناء شعره وفي التعبير عن تجاربه وعواطفه.
فقد استعان بقصة أيوب لانها تشبه في كثير من الوجوه تجربته الخاصة، حيث ابتلته الاقدار بمرض قاس أليم كما ابتلت أيوب، وكان عليه ان يصبر ويتحمل كما صبر أيوب واحتمل تعبيرا عن قوة ايمانه . ففي قصيدته ( سفر أيوب) في ديوانه( منزل الاقنان) تعبير عن هذه التجربة التي جعلت منه ايوبا معاصرا حيث كان يعالج في لندن. ففي هذه القصيدة يقول:
يا رب أيوب قد اعيا به الداء
في غربة دونما مال ولا سكن
يدعوك في الدجن
يدعوك في ظلموت الموت أعباء
ناء الفؤاد بها فارحمه ان هتفا
يا منجيا فلك نوح مزق السدفا
عني. اعدني الى داري الى وطني
ويقول السياب ايضا:
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الالم
لك الحمد ان الرزايا عطاء
وان المصيبات بعض الكرم
ألم تعطني أنت هذا الظلام
واعطيتني أنت هذا السحر
فهل تشكر الارض قطر المطر؟
وتغضب ام لم تجدها الغمام؟
شهور طوال وهذى الجراح
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح الليل اوجاعه بالردى
ولكن أيوب ان صاح صاح:
" لك الحمد ، ان الرزايا ندى
وان الجراح هدايا الحبيب
اضم الى الصدر باقاتها،
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة . هاتها"
كما ان السياب قارىء للاساطير البابلية والاشورية واليونانية ، وهذه الثقافة الواسعة التي يتمتع بها السياب سواء من دراسته للاديان بقصصها وتاريخها او للاساطير البابلية والاغريقية هي التي منحته نظرة شاملة عميقة متنوعة بصورة لامثيل لها في شعر شاعر من الشعراء المعاصرين للسياب. فهو لم يكتف بهذه الثقافات الانسانية التي استوعبها بعد ان احبها حبا عميقا رائعا. فهو بطبيعة تكوينه نهم الى معرفة العالم الخارجي ويريد ان يفهمه ويعرف مجراه واسراره العميقة ، ولا يستطيع ان يكون منعزلا كأي صانع يعمل بلا عاطفة في اتمام مصنوعاته. كما انه من اكثر الشعراء العراقيين معرفة بالفولكلور الشعبي حيث يستخدمه كعنصر اساس من عناصر بناء قصائده .
ففي قصيدته( مدينة بلا مطر) نجد استخداما دقيقا وبديعا لاسطورة( تموز) اله الخصب من شخصيات الاساطير البابلية القديمة المعروفة .حيث تتحدث القصيدة عن المدينة التي تخلى عنها ( تموز) فجف فيها كل شيء ولم يعد فيها لا مطر ولا زرع. ولم يعد فيها سوى الجفاف والجوع واهل القرية يتضرعون لتموز وزوجته ( عشتار) حيث يقول السياب في قصيدته:
وسار صغار بابل يحملون سلال صبار
وفاكهة من الفخار، قربانا لعشتار
ويشعل خاطف البرق
بظل من ظلال الماء والخضراء والنار
وجوههم المدورة الصغيرة وهي تستسقي
فيوشك ان يفتح- وهي تومض – حقل نور
ورف- كأن الف فلاشة نثرت على الافق-
نشيدهم الصغير:
قبور اخوتنا تنادينا وتبحث عنك ايدينا
لان الخوف ملء قلوبنا، ورياح آذار
تهز مهودنا فنخاف . الاصوات تدعونا
جياع نحن مرتجفون في الظلمة
ونبحث عن يد في الليل تطعمنا، تغطينا.
هكذا كان السياب يستخدم الاساطير البابلية في اصالة فنية عميقة وواضحة وبنفس القوة والقدرة بستخدم الاساطير اليونانية. والقصص الدينية.
ففي قصيدته ( رؤيا في عام 1956) يستغل الاسطورة اليونانية عن ( جنيميد) او( غنيميد) الراعي اليوناني الشاب الذي وقع في حبه ( زيوس) كبير الهة الاولمب الاغريقي. فارسل صقرا اختطفه وطار به اليه. اذ يقول السياب:
ايها الصقر الالهي الغريب
ايها المنقض من اولمب في صمت المساء
رافعا روحي لاطباق السماء
رافعا روحي – غنيميدا جريحا
صالبا عينى – تموزا مسيحا
ايها الصقر الالهي ترفق
ان روحي تتمزق
انها عادت هشيما يوم ان امسيت ريحا
كان السياب عموما من اقدر الشعراء على المزج بين الرؤية الواقعية والرؤية النفسية معا. انه استطاع ان يتحدث عن تجربة المواطن ، تجربة انسانية عامة في العراق، فتبدو تجربة هذا المواطن انسانية عامة يمكن ان يحسها الانسان في أي مكان. وهذه القدرة الفنية هي اثمن ما يمكن ان يمتلكه الشاعر السياب ليعبر عن تجاربه الانسانية.