الحلاقة والحلاّقون .. ثقافة العادات والمحيط الاجتماعي
صحيفة الزمان:الحلاقة فن وذوق وخلق قبل أن تكون وسيلة لإزالة الشعر الطويل وتجميل مظهر الرجل والشاب، ورحم الله حلاقينا ايام زمان فقد كانوا يكسبون رزقهم بالحلال والجهد الكبير إذ كان معظمهم من السادة الطيبين ومن جد جامع واحد على الأغلب في كل محلّة. ومنهم سيد قاسم وسيد محمد في الباب الجديد وسيد سيفو في باب البيض وسيد عبدالمجيد بربر في شهر سوق وسيد مجيد ومحمد نوري في باب لكش وسيد ألياس في باب السراي وسلطان وحسن في شارع النجفي وسيد نجم في شارع غازي وعبدالكريم في الدواسة وغيرهم عدد كبير ذكرتهم في (موسوعة الأسر الموصلية في القرن العشرين) وفي (القيد العثماني لنفوس الموصل لسنة 1839) والحمد لله.
كنا صغاراً نمتثل لمّا يقصّون ويرتّبون في رؤوسنا بملل وضجر، فقد كانت الحلاقة كل شهر لا تتعدى إزالة الشعر أو تخفيفه من الجوانب بالماكينة اليدوية الناعمة أو الخشنة والتي تسحب معها عدد من الشعرات بقوة تؤلمنا وتجعلنا نغمض أعيننا من الألم. وبعد تخفيف الحوافي يخفف الحلاق القسم الأعلى بالمقص والمشط من الأمام إلى الخلف بقصّات متناغمة متتالية معروفة يتساقط الشعر خلالها على الفوطة البيضاء والأرض ويتسلل بعضه إلى رقبتنا وأجسادنا من فتحات الفوطة. وينهي الحلاق عمله بالتحديد للرقبة والزلوف بالموسى بعد تمريره على السير الجلدي المعلق بجانبه لعدة مرّات، ولابد من حدوث خدوش أو جروح يمرر عليها الحلاّق بالشب، ثم يضع لنا (الغيحة) أي الرائحة المعطرة من بطل فيه سائل سميك أصفر اللون مشابه لزيت الطعام. أما آباؤنا وأجدادنا فكانوا يحلقون على الأغلب (نمرة صفر) بالموسى والصابون واللكن ويغطي الشب أو ورقة بيضاء أماكن الخدوش والجروح في رؤوسهم بشكل طبيعي تغطّيه (الغترة) أو (العقجين).
وكانت دكان الحلاق صغيرة تحوي على تختين طويلين في الجوانب فوقهما مرآتان مستطيلتان وعدد من الصور الملونة، ودواليب تضم المناشف والفوط ومرآة مدورة أو بيضوية كبيرة وكرسي ثابت أو دوّار في الوسط وفي صدر الدكان للزبون. ومن لوازم الدكان (لكن) من النحاس مطلي بالقصدير وإبريق للماء من النحاس كذلك وصابون حلب وهذه اللوازم لحلاقة الرأس بالموسى للرجال وكبار السن. ولكلّ حلاق صانع من أولاده أو أقاربه يعاونه عند الحلاقة بالموسى بمسك قطعة معدنية تسمّى (مركن) تمنع نزول الماء في رقبة الرجل والتي يرخيها الصانع (المتغابي) عمداً للزبون الذي لا ينقده البخشيش، كما يعمل الصانع في سحب حبل المروحة الكارتونية التي تعلّق في السقف جيئة وذهاباً لإحداث تيار بارد من الهواء خلال فصل الصيف قبل ظهور (البنكة).
وكان الحلاّق لبقاً في الحديث لطيف المعشر يجامل زبائنه على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم وليس كما يوصف بـ(الثرثار)، وكان يحافظ على معرفته بأنساب الأسر ومهنهم وحالتهم المادية وحالة البيت الذي يقطنونه وموقعه في المحلّة وعدد أفراده، ويحدّث هذه المعلومات الشفوية كلّما انتقلت أسرة من المحلّة وحلّت مكانها أسرة جديدة، ويعدّ خير وسيط في قضايا الخطوبة والزواج وبيع وشراء البيوت واصلاح ذات البين بين المتخاصمين من أبناء المحلّة. ويمارس عملية ختان الأطفال وقلع الأسنان ومداواة الجروح والدمامل بوصفه طبيب للمحلّة قبل انتشار الأطباء والمستشفيات.
كنّا شباباً في الخمسينيات من القرن الماضي نقلّد بعضنا في تصفيف الشعر وعمل تواليت على شكلين إما بتمشيط معظم الشعر إلى جهة اليمين بعد فرقه من اليسار بالمشط الباغة الأسود، أو قلبه إلى الخلف وهذه التسريحة لا تلائم الشعر الخشن ويحاول صاحب هذا الشعر تليين شعره بالماء ولبس (العقجين) أو (اليازمة) فوقه خفية في البيت لكي يتخذ الوضع المطلوب بالثبات إلى الخلف دون جدوى. وبقيت هذه التسريحة لا تتغيّر لفترة طويلة حتى ظهور الخنافس في السبعينيات والبنطلون (الجارلس) فأطال معظم الشباب زلوفهم الى الأسفل (مثل الجزمة)، وكذلك أطال بعضهم شعره من الخلف متشبهاً بالخنافس وسط استياء المجتمع الموصلي المتمسّك بالعادات والتقاليد الأصيلة. وفي الثمانينيات انشغل الشباب بالحرب والخدمة العسكرية التي شملتهم جميعاً دون استثناء فيما عدا الدراسات العليا والتصنيع العسكري، وكانت حلاقة الوجه يومياً من متطلبات الزي العسكري وحلاقة الرأس (نمرة 5) للجنود هي السائدة و(الصفر) للمعاقبين منهم. وكان البعض ممن يعملون في الخلف مرافقين أو حماية للضباط يطيلون شواربهم على شكل رقم 8 على نحو مقزز وكريه المنظر لاعتقادهم بأنهم يخيفون الآخرين ويفرضون احترامهم على الجميع بكونهم مرافقي فلان من الآمرين والقادة وشجعان ولكنهم لو نقلوا للقتال في الجبهة لتحوّلوا إلى فئران مذعورة. ولدينا اليوم عدد من هذه النماذج الكريهة حماية للمسؤولين مع الأسف، والأمر من ذلك نرى المسؤول أو الضابط وقد حلق رأسه نمرة صفر من الجوانب وأبقى القسم الأعلى من الشعر وكأنه عش للطيور أو قطعة من (الجلّة) وهي روث الأبقار الطري الذي يجمع على شكل أقراص ويلصق بالحيطان حتى يجف ويستخدم كوقود. وفي التسعينيات وبالرغم من وجود الحصار الاقتصادي المقيت فقد بدأت بالظهور اللحايا بأنواع شتى، منها الشبابية الخفيفة التي تحلق بالماكينة الكهربائية بين حين وآخر يترك الوجه خلالها أسود وكأنه مصبوغ بالسخام (لحية عدي)، ولحايا طويلة غير منتظمة مع (دشداشة قصيرة) والعياذ بالله، ولحايا مهندمة لبعض كبار السن وبخاصة أصحاب الحملة الايمانية والاخوان المسلمين. كما ظهرت (القرعة) التي كان يعاقب بها المخالفين في الجيش فأصبحت موضة لكثير من الشباب … عجيب!! وراحوا يحلقون رؤوسهم بالموسى فتصبح مثل (كرشة) مملوءة ترعب الأطفال الذين لم يتعودوا رؤيتها. وقلدهم آخرون وظهروا كما يقول المثل: (مثل السرج على البقرة) أي لا تليق بهم حلاقة الصفر لأن التسريحة يجب أن تلائم وجه الرجل أن كان بيضوياً أو مدوّراً أو مربعاً ولون البشرة الغامق والفاتح. وتبعاً لذلك ازداد عدد مرّات الحلاقة للشباب من مرة واحدة شهرياً إلى مرة واحدة أسبوعياً، مما جلب الوارد الجيد للحلاقين وكثرت محلاّتهم تبعاً لذلك ومنهم العاطلون عن العمل. وفي العام 2003 وردت مع الاحتلال (السكسوكة) واتخذت أشكال غريبة عجيبة بالتفنن الذي مارسه عدد من الحلاقين الشباب الشواذ بطرق ما أنزل الله بها من سلطان، فأخذوا يربطون السكسوكة بشارعين من اليمين واليسار يرتبطا بالشارب مع (عنقنقة) تحت الشفة والتي يستفاد منها لمنع نزول السوائل والمرق الى الصدر. واستخدام الخيط لحف الوجه مثل النساء دون أن يعيروا لاستنكار الناس أي أهمية، وازدادت أجرة الحلاقة تبعاً لذلك أضعافاً وحسب موقع الصالون وطول الوقت الذي يصرفه الحلاق في الحف والنتف والتحديد بالموسى وعمليات أخرى مثل الترتيب بالشسوار النسائي والدهن بالجل الذي أسقط شعر الكثير من الشبان وجعلهم قرعان يبكون بصمت شعرهم الثمين.
ومن المؤسف أن الكثير من الشباب أخذوا يقلدون الممثلين الأجانب ولاعبي الفرق الرياضية والمذيعين في الفضائيات والذين يعتمدون تغيير شكلهم ولبسهم على نحو غريب لكي يشتهروا عملاً بالقول (خالف تعرف)، ونتيجة التغيير الذي عمّ المجتمع الموصلي المحافظ إذ كنّا فيما مضى نخجل من لبس (القمصلة) كي لا يقال عنّا أننا نقلّد الممثل عبد الحليم حافظ ! ولا نطيل شعرنا مثل الخنافس. فهؤلاء من مجتمع يختلف عن مجتمعنا الموصلي … وإن فعلوا ذلك في مجتمعهم الشاذ لا يوجد من يعيبهم أو يمنعهم من ذلك مثل خروج البنت مع صديقها بعلم أهلها. والأدهى والأمر في كل ما مرّ أعلاه خروج شبابنا من المحنة الأخيرة مع داعش عام 2017 بموديلات وقصّات ولحى تبعث على الاشمئزاز والقرف، وقام بعض الحلاقين الدخلاء على المهنة بتعليق صور الأجانب الشواذ على أبواب محلاتهم لكي يغروا أطفالنا وشبابنا بالحلاقة مثلها. فظهرت حلاقة الشواذ بحلق الجانب الأيسر من الرأس نمرة صفر وتجميع الشعر في أعلى الرأس مثل عرف الديك باستخدام الشسوار النسائي على نحو مقرف وغريب. أما اللحى فظهرت طويلة مشابهة للحى اليهود والمسقوف (كان أجدادنا يسمّون الروس بالمسقوف خلال الحرب العالمية الأولى 1914-1918 حيث استشهد عدد كبير من أجداد الأسر الموصلية). فلماذا هذه اللحى الغريبة العجيبة ألم تشبعوا من لحى داعش وكنتم تتضجرون منها ومن قذارتها، وهل تحب النساء هذه اللحى ؟ الجواب كلاّ. إذن عليكم بمراعاة الذوق العام فالناس تنظر إليكم كشواذ لا غير، وتبصق على التلفاز عند مشاهدة أحدهم بلحية مسقوفية يهودية وحفر شعره من الجوانب ووضع عرف الديك أعلى رأسه فظهر مثل الطاؤوس وحاشا الطاؤوس لأن شكله الطبيعي الذي خلقه الله به أجمل. وفي الجامعة تجد جميع أنواع التسريحات واللحى المذكورة أعلاه وقد أبدى الشاب الوقت الطويل أمام المرآة وهو يقص ويشسور في شعره ولحيته في الوقت الذي يجب أن يصرف فيه الطالب وقته الثمين في الدراسة والبحث العلمي. فلماذا يا شبابنا الجميل تسيئون إلى أنفسكم بتغيير معالم وجوهكم الوسيمة ؟ لماذا لا تظهرون بشكلكم الجميل دون اضافات مشوهة ومجاناً دون صرف مبالغ قد تكونوا انتم أو أسركم بحاجة لها … دعوة إلى أرباب الأسر لمتابعة أزياء أولادهم وحثّهم على الاقتداء بالجيل السابق الذين بقوا محافظين متمسكين بعادات وتقاليد مدينتهم الأصيلة بدون حلاقة غريبة أو لحية مستوردة لحد اليوم وأن ينصرفوا لدراستهم وواجباتهم بدل إضاعة الوقت في السفاسف وما لا ينفعهم.