جمالية إرادة المقاومة: احترقت الكاتدرائية؟ سنعيد بناءها!
3 - مايو - 2019
غادة السمان
25
حجم الخط
لا أعتقد أنني سأنسى يوماً وقفتي الحزينة تلك أمام كاتدرائية نوتردام وقد شب الحريق فيها. تصادف أن كنت في ذلك الحي الباريسي في زيارة لصديقة. غادرتها وسرت صوب مترو (سيتيه) لأعود إلى بيتي حين شاهدت سحب النار والدخان. وكأي كاتب فضولي مشيت صوب مصدر النار.
وحين وصلت قرب المكان فوجئت بأن الحريق الكبير يلتهم كاتدرائية «نوتردام» التي تم تشييدها في القرون الوسطى قبل حوالي تسعة قرون.
خفت أن يكون خلف ذلك «المتأسلم»
مشيت حتى الباحة مقابل الكاتدرائية ووقفت خلف حاجز حديدي وضعه رجال الشرطة حرصاً على حياة الباريسيين والسياح الذين تدفقوا لمشاهدة أحد معالم الحضارة الإنسانية في العالم.
من طرفي كعربية صليت سراً كي لا يكون الفاعل (متأسلماً) ويباهي بهذا الحريق المروع الذي لم يقف أحد أمامه لامبالياً، حتى غريبة مثلي. وتجمع الناس من سياح وأبناء للديانة المسيحية من الكاثوليك، فهذه كاتدرائيتهم.
ها هي واحدة بينهم تصلي وتنتحب. يقترب منا مذيع تلفزيون مع الميكروفون وخلفه رجل الكاميرا. الواقفة قربي كانت سخية بدموعها وبحديثها عن مشاعرها أمام تلك الكارثة التاريخية لأن الكاتدرائية سجل لتاريخ فرنسا بما في ذلك نابوليون ولكل حدث في فرنسا، وكان هتلر كما قالت يريد إحراق باريس ولكن الكاتدرائية نجت من حربين عالميتين.
حسناً، أنا مسلمة لا كاثوليكية ولست فرنسية القلب والتاريخ، لكنني أعترف بحزني أمام مشهد حريق نوتردام ذلك الصرح الإنساني التاريخي، فهذه الكاتدرائية ليست مقراً دينياً فحسب، بل وأيضاً تحفة من تحف الفن المعماري والتراث الإنساني.
بكيت تدمر في وطني الأم
أعترف، كنت حزينة حتى الثمالة، إذ ذكرني ذلك الحريق لمعلم تاريخي بتدمير تدمر في سوريا التي زرتها ذات يوم، وتذكرت باحترام جدتي الملكة زنوبيا.
نعم، أنا شامية عتيقة، ولكن والدي رحمه الله أحب أن أتعارف مع وطني سوريا. ويبكي قلبي اليوم كلما شاهدت على شاشة التلفزيون الدمار الذي حل بتدمر. زيارتي إلى تحفة الصحراء تدمر أتذكرها بحنين جدتي الشجاعة «زنوبيا»، الملكة التي استطاع ملك روما أسرها لكنه لم ينجح في إذلالها، وتذكرت بحزن ذلك كله وأنا واقفة أمام حريق نوتردام دون أن أعي فقط أنني أمام مشهد تاريخي.. فقد ذكرني حريق نوتردام بتاريخ عالمي العربي مع الحرائق والخراب وأحزنني.
ذكاء غوستاف ايفل: برج لا يحترق!
ازدحم المكان حولي وأنا واقفة أمام «نوتردام» وهي تحترق. تعالت أصوات صلوات دينية وأغان كنائسية، حيث تجمع الناس وبالذات الكاثوليك، كما جاء سياح فضوليون، ناهيك عن أهل باريس ومن يقيم فيها مثلي. لم يكن ثمة من هو ليس حزيناً لذلك الحريق المروع في أحـــــد المعالم التاريخية والدينية الباريسية.. ولكن حزني كان مضاعفاً لأن ذلك الحريق (النوتردامي) ذكرني بحرائق قلبي أمام ما عانته وتعانـــــيه بعــــض مــــــدن عالمي العربي من هدم وتخريب. ولعل المهندس الذكي غوستاف إيفل شيد، «برج إيفل» من الحديد، لأن الحريق لن يطاله وسيظل دائماً رمزاً لباريس..
الذوق الرفيع للنار في الاختيار!
حين اشتد الزحام حولي عدت إلى بيتي هرباً من مشهد الحريق الذي ذكرني بحريق مكتبتي في الحرب اللبنانية.
النار ذات ذوق رفيع، فقد اختارت غرفة مكتبتي لإحراقها وتركت كل ما في بيتي من سجاد نادر وتحف وأثاث بديع واختارت رفوف مكتبتي، أجل!! النار ذات ذوق رفيع، إذ اختارت الآن أحد أهم المعالم التاريخية الباريسية لالتهامها. وفي الليلة ذاتها، شاهدت على شاشة التلفزيون رئيس الجمهورية الفرنسية السيد ماكرون واقفاً أمام «نوتردام» وخلفه الحريق المروع الذي يكافحه ببسالة 500 من رجال الإطفاء، وقال: «سنعيد بناء الكاتدرائية».. وببساطة، أحب تلك الروح الإيجابية التي تؤكد روح مقاومة الكوارث، وذلك أحبه كعربية.. حسناً، لقد احترق بعض الكاتدرائية الرائعة، ولكن لم تحترق إرادة المقاومة، إذ طالب الرئيس ماكرون الفرنسيين للتبرع والاكتتاب لإعادة البناء.. وفي اليوم التالي، علمت أن الأثرياء والفرنسيين تبرعوا بالملايين، وبلغت التبرعات في أقل من 48 ساعة مبلغ مليار يورو لإعادة بناء الكاتدرائية!
الأدب الكبير يطير فوق الحرائق…
ووسط ذلك الخضم كله، وخلال وقفتي مقابل الحريق الكبير المروع ووعيي بأنني أشهد حدثاً تاريخياً، تساءلت: تُرى لو تم الاكتتاب للتبرع لإعادة بناء تدمر، هل ثمة من يبالي بذلك من أثرياء عالمنا العربي كما حدث في فرنسا؟ لا أدري، لكنني أيضاً خلال تلك الوقفة أمام الحريق شاهدت الغجرية «أزميرالدا» ترقص، وأحدب نوتردام كازيمودو مبهور بها، وشاهدت روح الكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هوغو (1802 ـ 1885) الذي خلقهما إبداعياً وهي ترفرف فوقهما والنار تعجز عن إحراقهما.
هذا هو الأدب الكبير لا تطاله النار! في ليلة الحريق ألغت التلفزيونات الفرنسية برامجها لملاحقة الحدث الذي هز فرنسا والغرب وتدفقت بسرعة برقيات التعاطف. فما من سائح زار باريس إلا وزار الكاتدرائية (بمعدل 14 مليون زائر في السنة)… وتأثر بالحريق.
وفي اليوم التالي، لم نعد نرى على شاشات التلفزيونات الفرنسية غير الأفلام المستقاة من رواية فيكتور هوغو «أحدب نوتردام» ناهيك عن المسرحيات الغنائية والراقصة العصرية.. المستوحاة منها. حقاً، كل شيء قد يحترق لكن الكتابة المبدعة تطير فوق النار، والفن الكبير يحلق فوق الكوارث والحرائق… تُرى من هي/هو المبدع الذي سيستوحي زنوبيا وملك روما في عمل إبداعي يبقى حتى بعد تدمير معظم تدمر؟
