حين يُقتل الأطفال ليصنع الكبار أوراق ضغط في إدلب
منذ ساعة واحدة
لا تراهنوا على الضمائر، فالضمائر ماتت وتعفنت منذ أمد بعيد. ولا تتوسلوا بالدماء كي لا تصبح ماء، فقد فقدت ذلك اللهيب الذي يكوي النفوس ويجعلها تنتفض من أجل الحق. ولا تتشبثوا بالاخوّة وقيم الإنسانية، فقد تمت المتاجرة بها ودخلت سوق المزادات. كل ذلك قاد إلى صمم المشاعر والأحاسيس فبتنا نبحث عن الدفء غير آبهين بتلك الأجساد الغضة، التي ترتعد من البرد في الخيام وفي الشاحنات على تخوم إدلب السورية. فما الذي يجري في هذه المدينة؟ وهل تستحق الطفولة وإنسانية الإنسان أن تُسحق بهذه الطريقة البشعة؟
إن ما يجري في كل سوريا، وفي هذه المدينة على وجه الخصوص، محركاته الأساسية هي لعبة الجيوبولتيك والذاكرة التاريخية أيضا، فقد عاد الصراع الجيوسياسي بين القوى الإقليمية الثلاث روسيا وتركيا وإيران، من الساحات المعتادة للصراع التاريخي بينها، التي كانت في القوقاز والبلقان، إلى سوريا والعراق ولبنان، ففي ظل الانهيار الذي أصاب أسس النظام العالمي، المترافق مع انهيار تام للنظام الإقليمي في هذه المساحة الجغرافية، حضرت وبقوة مصالح الدول العظمى كروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الدول الإقليمية الكبرى تركيا وإيران وإسرائيل، وبذلك سقطت كل الاتفاقيات التي اقتسم بها الجميع سوريا، ومعها أيضا سقطت كل قواعد الاشتباك. وباتت جميع القوى اليوم تحاول رسم قواعد اشتباك جديدة تحقق بها مصالح أخرى إضافية، وأوراق ضغط تمسك بها كي تطرحها، إن كانت هنالك طاولة مباحثات ترسم ملامح سوريا المستقبلية.
روسيا اليوم هي الطرف الأقوى على الأرض، وهي من ساعدت النظام السوري على إحداث تغيرات مهمة في الخريطة العسكرية، فجعلته يسيطر على معاقل المعارضة شمال وغرب مدينة حلب، التي كانت تسيطر عليها منذ عام 2012. كما أنها هي التي سمحت للنظام بأن ينتهك كل الاتفاقيات التي تم توقيعها بين أنقرة وموسكو. فقد تم فرض وقف إطلاق النار في إدلب بموجب اتفاقية سوتشي في 17 سبتمبر/أيلول 2018. وبموجب هذا الاتفاق أقامت تركيا 12 نقطة مراقبة في المنطقة، لكن النظام السوري انتهك الاتفاق، بحجة أن تركيا لن تفي بالتزاماتها، وهي إنشاء منطقة عازلة على عمق 15 ـ 20 كيلومترا خالية من الأسلحة الثقيلة للمعارضة، وخالية أيضا من الجماعات التي تسمى إرهابية. وقد تبنت موسكو هذه الادعاءات أيضا، بل شجعت ودعمت النظام للقيام بعملية عسكرية، استعاد بها العديد من قرى إدلب وحلب، وسيطر على الطريق الدولي الرابط بين دمشق وحلب، ما جعل نقاط المراقبة التركية على أرض الميدان خلف ظهر قواته.
إن اللعبة الروسية التي أصبحت معتادة هي مساعدة قوات النظام وحليفاتها الميليشيات الإيرانية على قضم الأرض، ثم دعوة تركيا إلى التوصل إلى اتفاقيات جديدة وفقا للمعطيات الميدانية المستحدثة على أرض الواقع، مع الرفض القاطع للتنازل عن المكاسب المتحققة للنظام السوري. وهي اليوم تطالب أنقرة بالانسحاب من جميع نقاط المراقبة، وتسليم نقاط التفتيش العسكرية على طريق تركيا ـ إدلب، وكذلك أن تسحب تركيا جميع عناصر المعارضة السورية. كل ذلك مقابل منطقة آمنة تُنشئها أنقرة على طول الحدود التركية – السورية بعمق 15 كيلومترا، تستضيف فيها النازحين السوريين. وعلى الرغم من أن الصراع لتثبيت المصالح على الارض السورية يسعى إليه الأتراك والروس بشكل حثيث وواضح جدا، لكن تبدو تركيا غير قادرة على الرفض في ظل الأرضية الصلبة، التي بنت عليها علاقاتها الاستراتيجية مع الجانب الروسي. فالمصالح بين البلدين باتت ذات أبعاد مستقبلية تحقق فيها تركيا مصالح كبيرة لها، وليست منافع مرحلية، فموسكو زودت أنقرة بمنظومة الدفاع الجوي المتطورة أس 400، كما أنها تقوم ببناء مفاعل ذري لصالح تركيا، وكذلك خط أنابيب الغاز الروسي، الذي يمر عبر الاراضي التركية إلى أوروبا، تحت البحر الأسود.
كلها أوراق ضغط تجعل صانع القرار التركي يفكر ألف مرة فيها، قبل اتخاذ أي قرار تكون نتائجة سلبية على العلاقات بين الطرفين. لذلك نجده اليوم يقول إنه لن يسمح بعد الان للطائرات أن تستهدف السكان المدنيين في إدلب، لكنه لم يقل لنا كيف، خاصة أن الروس هم من يسيطرون على الأجواء السورية؟ إن خوف تركيا ليس مما يتعرض له سكان إدلب، إن الخوف الذي يعتريها هو من ما بعد إدلب. فالخروج من هذه المدينة يعني خروجها من المعادلة السورية، كما أنه خوف من تدفق المزيد من اللاجئين السوريين إلى أراضيها، وهذا يهدد مستقبل الحزب الحاكم. والأكبر والأخطر من كل ذلك هو تطويقها من قبل روسيا، وبالتالي احتواء دورها الإقليمي في المنطقة، خاصة أن موسكو بضمها لجزيرة القرم في عام 2014 جعلت البحر الأسود بحيرة روسية، ما هدد سيطرة تركيا على مضيقي البسفور والدردنيل، لذلك يسعى صانع القرار التركي رسم قواعد اشتباك جديدة عبر تعزيز جبهة عسكرية تمتد من إدلب وحتى جسر الشغور شمال الطريق الدولي (أم 4). وأن إرسال المزيد من القوات التركية إلى إدلب هدفه فرض المزيد من الضغوط على موسكو للعودة إلى مفاوضات، توقف التدهور السريع للمصالح التركية على الأرض.
اين الفاعل الأمريكي من كل ما يجري؟ إنه يلتزم الصمت تجاه ما يحدث ولا تعنية المعاناة الانسانية، بقدر ما تعنيه المنافع السياسية والعسكرية المتحققة له، من خلال الاستجابة للطلب التركي بتزويدها بمنظومة باتريوت، التي تريدها انقرة وسيلة لغمس حلف الناتو في الصراع الدائر في سوريا، وفزّاعة تخوف بها الاطراف الاخرى. كما أنه بانتظار الطلب الروسي منه الدخول على خط الازمة للضغط على الرئيس التركي. حينها تنفتح فرصة جيدة للتفاهم الأمريكي الروسي على حزمة المصالح في سوريا. وربما تكون واشنطن بانتظار أن يتأزم الموقف أكثر بين حليفتها تركيا وروسيا، ما يضطر صانع القرار التركي لطلب المساعدة من الحلفاء في الناتو، مقابل التخلي عن صنع سياسات تركية مناقضة ومتعارضة مع واشنطن والحلف الأطلسي.
بالمقابل أين موقف الاتحاد الاوروبي؟ هو لديه مخاوف من المواجهة العسكرية التركية الروسية التي هي بعيدة الاحتمال. كما لديه مخاوف كبيرة من اللاجئين، وإمكانية تكرار التدفق الكبير منهم إلى أوروبا، كما حصل في بداية الأزمة، لكن ليس لديه أي تأثير على الطرفين الروسي والتركي. مع ذلك يمكن أن يمارس ضغطا دبلوماسيا على الطرفين للوصول إلى تفاهم مشترك بينهما. الأوروبيون قد يطلبون ضمانات من الروس في منطقة على الحدود السورية التركية بعمق 30 كيلومترا، كما قد يطلبون من الروس عدم منح الأكراد وضعا شبيها بأكراد العراق، لكن الروس لن يقدموا هذه الضمانات لأنهم يعتبرونها تتنافى مع الاتفاقيات السابقة. كما أن روسيا لن تستجيب للموقف الاوروبي لأنهم يرون فيه موقفا متفقا مع التوجهات التركية من حيث المخاوف، على الرغم من أنه يتفق مع الموقف الروسي من جهة بقاء سوريا موحدة.
*كاتب عراقي واستاذ في العلاقات الدولية