ماذا حدث للنهر؟! / الاستاذ فيصل الخطيب
خرجنا من كاو في الصباح الباكر من يوم الأحد, وقيل لنا أنّ الرحلة الى تمبكتو تستغرق من خمسة الى ستة أيّام, وكنّا نتجوّل بين المسافرين الّذين يكتظ بهم المركب, وتعرّفنا على بعض الأخوة الموريتانيين الّذين يسكنون تمبكتو, وكانوا جميعا يعرفون محمد خطرة معرفة جّيدة ويتكلّمون عنه باحترام.
وفي خامس يوم من الأبحار وكان يوم الجمعة, وصل بنا المركب الى أطراف تمبكتو, وقال الربّان اننا على بعد خمسة كيلومترات فقط من المدينة, ولكننا لاحظنا أنّ الرجل كان متوتّرا بعض الشيء, ثمّ لاحظنا شيئين آخرين, ألأوّل أنّ المركب يسير أبطأ من السابق بكثير, والثاني أنّ عرض النهر في هذا المكان كان يعادل ضعف عرضه في منطقة كاو, وبدا لنا أنّ الربّان كان يحاول جهده أن يبحر في منتصف النهر ولا يدنو من الضفّتين, فسألنا أحد الأخوة الموريتانيين وأسمه ضرار على ما أذكر, أن كان عنده ايّة فكرة عمّا يحدث.
وبالتأكيد كان ضرار يعرف ما يحدث, لأنّه يحصل كثيرا في هذا الجزء من الرحلة عندما يقترب المركب من تمبكتو, وقال لنا أنّ الأرض في منطقة تمبكتو مسطّحةٌ جدّا وليس فيها ايّ أخدود عميق ليجري فيه النهر عميقا كما هو الحال في كاو, ولذلك فأنّ الماء يتوزّع على مساحة كبيرة من الأرض, ويصبح سطح النهر أعرض بكثير وأضحل بكثير, ولذلك فأنّ الربّان يمشي في أعمق نقطة ممكنة من النهر والّتي هي وسط النهر, لكي يتحاشى أن يلمس المركب قاع النهر ويتوقف عن الحركة!
وكما يقول المثل العامّيّ : (اللي بيخاف من القرد بيطلع له القرد!) فانّ ذلك بالضبط ما حصل بعد دقائق, أذ أنّ المركب لامس قعر النهر وتوقف فورا عن الحركة, وتعثّر بعض الركاب الواقفين بخطاهم, مما دعاهم لأن يجلسوا فورا على الأرض أو على المقاعد, وسمعنا الجميع يلغطون كلُ بلغته مستنكرين ما حدث!
أمّا نحن فلم يكن لدينا خبرة كافية في الأبحار وركوب الأنهار, وكان خوفنا من ركوب السفن أن يعبث بها الموج والريح فتغرق ونغرق معها, أمّا الآن فالمشكلة أنّنا في مركب لا يمكن أن يغرق, لأنّ أصله واقف على الطين في قاع النهر, وباقيه واقف في الهواء (مرفوع الرأس) لأن ليس هناك ماء يكفي لأغراقه!
ولم يطل الأمر, فأنّ بلديّة تمبكتو أرسلت قوارب صغيرة وأفرغوا جميع الركّاب من المركب على عدّة دفعات الأمر الّذي جعل المركب يطفو مرّة ثانية, وطبعا كنّا أنا وفهمي على متن أحد هذه القوارب الّذي قطع بنا المسافة الباقية الى تمبكتو, ونزلنا الى اليابسة وسألنا عن بيت السيد محمد خطرة ووصلنا اليه سريعا, وأعطيناه رسالة مولاي أبراهيم فرحّب بنا كثيرا, وقدّم لنا التاي والعشاء, ثمّ دلّنا على الغرفة المريحة الواسعة الّتي ستكون غرفتنا خلال اقامتنا عنده, وأخيرا أرشدنا الى الحمام لكي نغتسل وننفض عنّا غبار السفر (وعرق السفر) أيضا.
بعد ذلك جلس السيد خطرة معنا, وسألنا عن حالنا وسفرنا, فشرحنا له عمّا نحن بصدده من التجوّل في دول غرب أفريقيا, وأنّ قصدنا الآن بعد مالي هو السنغال, وسألناه بدورنا عن تمبكتو وتاريخها وخصائصها, وكان يعرف عنها الشيء الكثير, فأنّها كانت تُعدّ احدى أعرق حواضر الأسلام في أفريقيا, وكانت همزة الوصل بين شمال وأواسط أفريقيا, وكانت تقع على واحدة من أهمّ الطرق الّتي كانت تنتهجها القوافل للتجارة بين الصحراء الكبرى ومنطقة الهضاب وانتهاءا بمناطق الأدغال, وكان الملح والتوابل والتمر والحرير يأتي اليها من المغرب العربي, ثمّ يمرّ عبرها الى الدول المجاورة جنوبا, وترجع القوافل من الجنوب بسلع مختلفة كالذهب والعاج وجوز الكولا, وهو يشبه الكستناء ولكنّه مرّ الطعم وفيه مخدّرُ منبّه وكان يستعمل في صنع شراب الكولا, وهو نوعين: الكولا وحبّتها سوداء والغورو وحبّته صفراء, ولا ينبت في الوطن العربي, وكانت القوافل تحمل هذه السلع رجوعا الى دول المغرب العربي.
وكان لتمبكتو مكانة دينيّة وثقافيّة وتجاريّة, وكان لها الكثير من القاب الشرف, منها : مدينة الأولياء, وجوهرة الصحراء, وقد زارها الرحّالة المشهور أبن بطوطة بعد أن زار كاو وكتب: أنّ تمبكتو وكاو هما أبرز المدن (في أمبراطوريّة مالي)! مما يعني أنّ مالي كانت يوما أمبراطوريّة عظيمة الشأن!
نعم, لقد كانت مالي أمبراطوريّة عظمى, وأبحر أحد اباطرتها وهو (مانسا ابوبكر كيتا الثاني) الى أمريكا الشماليّة وأمريكا الجنوبيّة قبل كولمبوس بمئات السنين وسآتي على ذكر ذلك قريبا!
.. وللحديث بقيّة ان شاء الله
