كيف فقدت فهمي في نهر النيجر! / الاستاذ فيصل الخطيب
كان التبغ والسجائر من الأشياء المفقودة في مدينة كاو, بل وفي دولة مالي كلّها بعد استقلالها عن فرنساعام 1960م, وذلك لأنّها كانت من الكماليّات الّتي تضر صحيّا واقتصاديّا بدولة فقيرة مثل مالي في ذلك الوقت, ولم يكن يستفيد منها الاّ مصانع السجائر في فرنسا!
وللأسف, كنّا انا وابو الفهد من المدمنين على التدخين منذ مرحلة الدراسة الأعداديّة, وكان معنا بضع علب من الدخّان ما لبثت أن انتهت ونحن في كاو!
وفجأة لم يعد هناك سجائر, ولا دكاكين نشتري منها علبة دخّان, ولا حتّى مدخّنين نستلف منهم سيجارة (على الحساب!), وضاق خلقنا من هذه الداهية الغير متوقّعة, فقد كان أقرب مكان يمكن أن تشتري فيه علبة دخّان هو مدينة أدرار الجزائريّة الّتي تبعد عن كاو أكثر من الف وخمسمئة كيلومترا!
وأخذنا نحكّ رؤوسنا ونحاول أن نجد لهذه الأزمة مخرجا ولكن بدون أيّ جدوى, وأخيرا قرّرنا ان نستبدل السجائر مؤقّتا بتسلية اخرى تجعلنا ننشغل عن التدخين!
وبعد تمحيص الأمر والنظر اليه من جميع الزوايا, قررنا أن نعاود الكرّة لاصطياد السمك, وكان فهمي دائما يقول ان أحد الأئمّة (أظنّ انّ اسمه ألسيوطي!) كان يذكر في كتبه أنّ كثرة النظر ألى الماء تولّد داء النسيان, لذلك فأننا أذا عكفنا على صيد السمك سوف نحقق ثلاثة أهداف, الأول تحصيل الرزق من السمك, والثاني النسيان بسبب النظر الى الماء, والثالث عدم التدخين بسبب النسيان!
وهكذا كان, فقد حملنا ما يكفي من فتافيت الخبز, ووضعنا دبابيس الصيد مع خيطان الملاحف في الكيس الّذي وهبه لنا حمو البّوانجي بالأمس, وقصدنا باب الله متوجّهين ألى ضفّة نهر النيجر!
جلسنا على الحائط الّذي كان طوله يمتد لبضع مئات من الأمتار على طول الشاطئ, وكان ارتفاعه نحو ثلاثة أرباع متر وعرضه نحو نصف متر.
وفور وصولنا اصطدنا ثلاث سمكات في ظرف نصف ساعة, وبدا كأنّنا نستطيع ان نقدّم هذه الليلة عشاء من السمك لكلّ الأخوة في بيت حمو اذا ظلّ الصيد موفقا على هذه الوتيرة!!
وكان اليوم مثاليّا للصيد لأنّ الحر لم يكن شديدا في ذلك اليوم, بسبب نسيم عليل كان يهبّ من الجهة الجنوبيّة, وتذكرنا أغنية ام كلثوم : أغار من نسمة الجنوبٍ على محيّاك يا حبيبي من شعر العبقري أحمد رامي!
ولكنّي فجأة لاحظت أنّ شيئا قد أستولى على أهتمام فهمي بالكامل, فقد علقت سمكة بصنّارته, وكان خيط الملاحف يترنّح بين يديه, وهو لا يعير ذلك اي أهتمام, وكان كلّ اهتمامه منصبّا على القوارب (الحسكات)!
وكانت الحسكات مربوطة الى الحائط الذي نجلس عليه بحبال عاديّة, ولم يكن النهر فائضا او هائجا بل كان هادئا صافيا وكنا ننظر فنرى الاسماك وهي تمرّ ذهابا وأيابا ساعية لرزقها, وقد نبّهت فهمي الى السمكة التي عضّت الطعم, ولكنّها كانت قد افلتت وذهبت في حال سبيلها!
وسألته ما الخبر فقال أنّه في مزاج رائق ومنسجم مع النسيم والمنظر الساحر, وأضاف أنّه ينوي أن يبحر في احد هذه المراكب (الحسكات) ليرى كيف تبدو كاو من النهر!
فعرفت أنّه ينوي ان يفعل شيئا قد لا تحمد عقباه, وقلت له اوّلا ان المراكب لها اصحاب, وثانيا لم نكن نعرف السباحة وقتها فأذا انقلب المركب سوف نغرق, وثالثا كان ينوي ان يمشي مع التّيار مما يعني انّه حين يعود سيكون يصارع التّيار, مما سيجعل الأمر أصعب, ولكنّ كل ما قلته كان صرخة في واد ونفخة في رماد, فأنّ ابا الفهد وضع عدة الصيد في الحسكة الّتي لم يكن لها مجداف, ولكن كان هناك قضيب من الحديد طوله أكثر من ثلاثة أمتار ممددا داخل المركب, وهم يمسكونه بشدّة ويدلّونه في الماء حتّى يلامس قعر النهر, ثمّ يدفعون المركب الى الأمام ويعيدون الكرّة حتّى يصلوا ألى وجهتهم!
امتنعت عن مرافقة أبي الفهد, فقال لي ان أنتظر حيث أنا وهو سيعود بعد قليل, وبقيت اتصيّد فامسكت بثماني سمكات مختلفة الانواع والاحجام, ثمّ بدأ النهار يحجم والليل يقدم وبدأ يعتريني ألوسواس ممّا قد يكون حصل لفهمي.
وقبل أن أفقد الأمل وأذهب لأحضار النجدة, رأيت فهمي عن بعد وهو يجدّ في المشي قادما نحوي.
شرح لي أنّ في النهر تماسيح, وعندما كان على بعد كيلومترين من موضعي شاهد بعضها قريبا منه, فدفع المركب بأقصى سرعة نحو الشاطئ, وقفز بكلّ قوّته من المركب الى اليابسة وترك المركب هناك ورجع اليّ ماشيا, أمّا أنا فكان بطني (ماشيا) من خوف أن يكون قد حصل لفهمي مكروه!!!
ونلتقي باذن ربّنا
الاستاذ فيصل الخطيب
