أمبراطوريّة مالي 1235-1630م ! / الاستاذ فيصل الخطيب
مرّت القارّة الأفريقيّة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بمراحل صعبة بسبب الأطماع الأوروبيّة الّتي أدّت بالطبع الى الأستعمار الأوروبي البغيض الّذي امتص خيرات القارّة وأذلّ اهلها وعاملهم بطريقة عنصرية قائمة على التفرقة بين أبيض (على اساس أنّه الأرقى) وأسود (على اساس اّنه لا يقدر أن يكون الاّ متخلّفا), بينما كان الأوروبي -ولا زال- يسلب خيرات أفريقيا حتّي يومنا هذا, فأنّ معظم امتيازات التنقيب عن الماس والذهب لا تزال حتّى بعد استقلال معظم الدول بأيدي شركات أوروبيّة, وعمّال المناجم الأفريقيّون يخضعون للتفتيش الدقيق كل يوم عند مغادرتهم وظيفتهم في آخر النهار لئلّا يكونوا قد خبّئوا شيئا من الخامات الثمينة الّتي ينقّبون عنها في أرضهم وبلادهم, لأنها (شرعيّا) يجب أن تنتهي بيد الأوروبي الّذي يملك تعاقدا مع الدول الأفريقيّة, ينص على انّ جميع عائدات التنقيب هي من حق الأوروبي الحاصل على التعاقد!
لذلك قررت أن احيد في هذه الحلقة عن حكايات السفر, والمفارقات الّتي كانت تحصل لنا أنا وفهمي خلال أيّام رحلتنا, وأن أخصص موضوع اليوم لتبيين ما كانت عليه أحدى دول أفريقيا, وهي دولة مالي, قبل أن يتحكّم في أفريقيا الأنسان الأبيض الأوروبي!
في سنة 1235م تأسست أمبراطوريّة مالي, بعد أن انفصلت عن دولة الكونغو, وفي عام 1303م تولّى العرش امبراطور (يعني مانسا بلغتهم الماندينغا) اسمه أبو بكر كيتا الثاني, وأصبح هو الحاكم على الأمبراطوريّة, وكان تاسع الأباطرة الّذين حكموا مالي, الّتي كانت واحدة من أعظم ممالك أفريقيا, أن لم يكن أعظمها على الأطلاق, وكان لديها حينئذٍ ثاني أكبر جيش في العالم بعد الجيش المنغولي في شرق آسيا, وكان عدد مدنها يزيد عن 400 مدينة من أرقى وأجمل مدن افريقيا!
وكانت أهمّ تلك المدن هي العاصمة تمبكتو, وكانت تضم نخبة من العلماء المختصّين بالرياضيّات والطب والقانون والفلك وفنّ المعمار, أضافة الى علوم الدين.
وكذلك كانت مالي مركزا تجاريّا عالميّا حافلا بالبضائع من الذهب واللؤلؤ والعاج والنحاس والحديد والأقمشة والجلود والكتب والملح, كذلك تجارة الأنعام من الخيل والأغنام والأبل والألبان ومشتقّاتها, وجوز الكولا والغورو !
وكانت مالي تنتج لوحدها أكثر من نصف كمّيّة الذهب الموجود في جميع القارّة الأفريقيّة!
وكان الأسبان يشترون الذهب من مالي, ويوثّقون رحلاتهم ببعض الرسوم الّتي تظهر تعاملهم مع الأفارقة, وترى في هذه الرسوم رسم لأحد أباطرة مالي وهو موسى كيتا الثاني وبين يديه كرات كبيرة من الذهب.
وكان موسى كيتا قد تولّى الحكم بعد أخيه ابو بكر كيتا الثاني الّذي غلب عليه ولعه بالابحار لدرجة أنّه تنازل عن العرش سنة 1311م, لكي يبحر لاستكشاف مجاهيل المحيط الاطلسي.
وفي عهد موسى اتّسعت رقعة امبراطورّية مالي لتشمل من دولة تشاد شرقا الى المحيط الأطلسي غربا, فاصبحت تحتوي على كلّ من السنغال وغامبيا وغينيا وبوركينافاسو والنيجر واجزاء من موريتانيا ونيجيريا!
وعندما نوى الامبراطور موسى السفر لقضاء فريضة الحج عام 1325 فقد قام باعظم رحلة حجّ سجّلها تاريخ الاسلام, فقد توجّه الى مكّة المكرمة في موكب احتوى على ستين الف رجل من الحاشية وكانوا يحملون الهدايا للملوك لتوزيعها اثناء الرحلة, وكان اثنا عشر الفا من هؤلاء الرجال يحملون ما مجموعه 24 طنّا, أي (24,000 كيلوغراما) من سبائك الذهب الخالص, وثمانون جملا يحمل كلّ منها قنطارا من الّذهب!
وكان برفقته رجال يلبسون الحلل الحريرية, ويحملون صولجانات من الذهب, ووظيفتهم أن يراقبوا القافلة ويرتبوا شؤونها ويحافظوا على نظامها!
ويقدّر المؤرّخون اليوم ثروة الامبراطور موسى آنذاك بما يعادل اربعمئة مليار دولارا امريكيّا بمقاييس زماننا الحاضر!
وقد تصدّق الأمبراطور موسى على الفقراء طوال رحلته الى مكة, فكفاهم شرّ العوز والفاقة الى آخر ايّام حياتهم, وبنى مسجدا في كل مكان حط فيه رحاله ايام الجمعة,ولمّا وصل الى القاهرة بهرته بجمالها وعمرانها, فالتمس من السلطان المملوكي الناصر محمّد ان يرسل معه مهندسين معماريين, ليعمّروا مدن مالي كما عمّروا القاهرة.
أمّا الملك ابو بكر الثاني الّذي تنازل عن الملك وابحر غربا على المحيط الاطلسي, فتقول المراجع التاريخيّة انه اصطحب معه مئتي سفينة والفي قارب, وحمل معه اطنانا من الاطعمة المجففة وكثيرا من الذهب للمقايضة اذا احتاج الامر, ويغلب ظن المؤرّخين الى انّه وصل امريكا الوسطى والجنوبية, واستقرّ في منطقة البحر الكاريبي وجزيرة هايتي والدومينكان ولم يعد الى افريقيا!
وقد أكّد كولمبس أنّه وجد آثارا كثيرة تثبت ان الافريقيين كانوا في المنطقة قبل ان يصلها هو, وهناك مخطوطات في مكتبة الكونغرس بخط يده تثبت ذلك.
ويؤكد كولمبس في مذكراته انّه عندما وصل مع رجاله الى اليابسة (التي ظنوها الهند) وجدوا اناسا من العرق الزنجي ممتزجين مع الهنود الحمر, مما يرجح انّ ابا بكر الثاني ورجاله وصلوا واستقرّوا في المكان, وبذلك يكون المسلمون السود قد وصلوا امريكا قبل كولمبس بما يقارب المئتي عام !
ونلتقي ان شاء الله